في الزوايا الخافتة للبيوت الشرقية، كثيرًا ما يجلس الأب وسط صمت لا يقطعه سوى خطواته الثقيلة أو همهماته العابرة. لا يُذكر اسمه إلا في قوائم الاحتياجات والالتزامات. هو ذلك “العمود الصامت” الذي بُنيت فوقه تصورات قاسية للرجولة، حتى غدت دموعه جريمة لا تُغتفر وألمه سرًا لا يُقال.
لكن هل من العدل أن نصادر من الأب إنسانيته فقط لأنه “رجل”؟ وهل الرجولة حقًا هي الصمت القاسي والتحمل حتى الانهيار، أم القبول بضعف طبيعي يتقاسمه البشر جميعًا؟
بين الحضور والغياب: الأب كظل لا يُرى
منذ اللحظة الأولى لميلاد الطفل، كثيرة هي الأضواء التي تسلط على الأم، فهي رمز التضحية والحنان (وهي تستحق ذلك بصدق). أما الأب، فيحضر غالبًا في الخلفية: معيل، مسؤول عن الفواتير، متابع للدراسة، حارس لتفاصيل الحياة اليومية. دوره مهم ومع ذلك فهو دائمًا “شخص في الظل”.
لا أحد يسأل: من يلتفت لمشاعر الأب؟ من يسمع تنهيدته بعد يوم عمل مرير؟ من يحتضنه إذا انكسر أو مرض أو ضاق به الحال؟
الأب موجود في كل شيء، لكنه نادرًا ما يحصل على مساحة للإفصاح عن تعبه، أو حتى تلقي الشكر البسيط، في ظل منظومة لا تعترف بإنسانيته بقدر ما تمجد صلابته المفترضة.
الرجولة المسمومة: حين يصبح الصمت فضيلة والدمعة ضعفًا
“الرجال لا يبكون”… عبارة تُلقَّن للصبيان في سن مبكرة، على أنها فضيلة. بمرور الوقت، تنغرس هذه الجملة في أعماق الوعي الجمعي، وتتحول إلى قانون غير مكتوب يحكم سلوك الرجال وآبائهم جيلًا بعد جيل.
في مجتمع يقدس الصلابة ويعتبر البكاء ضعفًا والشكوى عارًا وطلب المساعدة مهانة، يتحول الأب إلى سجّان لمشاعره. ينكر احتياجاته النفسية، يكمم حتى تنهيدته، ويسجن خوفه وقلقه وألمه خلف حجّة “الصبر الرجولي”.
تتحول “الرجولة” من قوة اتزان واستقامة إلى عصا غليظة تُضرب بها مشاعر الأب كلما لاح عليه الضعف أو بدت في عينيه دمعة ترفض السقوط.
مشاعر مكسورة خلف الهدوء
رغم كل هذا الإنكار المجتمعي، يظل الأب بداخل قلبه إنسانًا يخاف، يحزن، يشتاق، ينهار أحيانًا ولو بصمت.
كم من أبٍ ينهض كل صباح مثقلاً بديون ووعود وخيبات، لكنه يصطنع القوة على مائدة الإفطار، مبتسمًا وفي داخله عاصفة من القلق والرغبة في الانهيار؟ كم من أب يعاني من الاكتئاب أو القلق المزمن أو رهق لا يُرى، لكنه يدفنه في صمته لأن أحدًا لا ينتبه له… أو يهتم بسؤاله؟
وراء الظل، أب جريح، لا يمنحه أحد لحظة راحة أو حضن احتواء.
تتوارث الأجيال صورة الأب “الخالد الصامت” الذي لا يحق له الضعف، فتتراكم في صدر المجتمع أمراض نفسية لا تُعالج، ولا تُسمّى.
الشجاعة ليست في الصمت إنما في الاعتراف
آن الأوان لإعادة تعريف الرجولة بشكل أكثر إنصافًا وصدقًا. لم تعد قوة الرجل تُقاس بعدد همومه المكبوتة، ولا بقدرته على إخفاء ألمه أمام الأبناء.
الرجل الحقيقي والأب القوي هو الذي يدرك أن الصبر قيمة، لكن التعبير عن الألم شجاعة أيضًا.
الرجولة الجديدة هي الاعتراف بالحاجة للاحتواء والدعم، وتعليم الأبناء أن دمعة الرجل ليست وصمة، بل علامة على حياة داخلية غنية مثل أي إنسان آخر. التوازن بين القوة والمرونة، بين العطاء وقدرة الاستناد هذه صورة الرجولة الإنسانية التي نفتقدها في مجتمعاتنا اليوم.
لنمنح الأب فرصة للبكاء
ليس من الضعف أن يبكي الأب، ولا من العيب أن يطلب المساعدة أو يشكو بثّه لمن يحب. ما يُعد عيبًا حقًا أن نبقيه رهينة صورة كرتونية مبتورة تحرمه من إنسانيته.
الأب يحتاج أحيانًا لكلمة امتنان، لكتف يسند عليه رأسه، لحضن يقول له: “أنت لست وحدك… نشعر بك ونراك”.
في يوم سيرحل فيه الأب الذي لم يبكِ يومًا، سنكتشف كم كان ضروريًا أن نمنحه تلك الدموع التي لم يُجز لنفسه أن يسكبها.
ربما لو أعطيناه قليلاً من الدفء، لاحتفظ ببعض نضارته وبعض روحه كي يمنحهما لنا لاحقًا.