القلق هو شعور طبيعي يختبره الإنسان كرد فعل على التهديد أو الضغط، وقد يكون مفيدا في بعض الحالات لأنه يدفعنا للحذر والانتباه. لكن عندما يصبح القلق مفرطًا أو دائمًا ويؤثر سلبًا على الحياة اليومية، يتحول إلى اضطراب نفسي يحتاج للعلاج. في السنوات الأخيرة ازداد اهتمام العلماء بفهم الأسباب العميقة للقلق بما فيها الأسباب الجينية. فهل يمكن أن يكون القلق موروثًا؟ وهل هناك جينات تجعل بعض الناس أكثر عرضة للقلق من غيرهم؟ يهدف هذا المقال إلى تحليل العلاقة بين العوامل الوراثية واضطرابات القلق، وشرح كيف يمكن أن تتفاعل الجينات مع البيئة لتؤثر على ظهور القلق.
القلق كاضطراب نفسي
القلق المرضي لا يقتصر على شعور مؤقت بالتوتر، بل يشمل مجموعة من الاضطرابات النفسية التي تتسم بالخوف المستمر أو المفرط. من بين أشهر هذه الاضطرابات: اضطراب القلق العام (GAD)، اضطراب الهلع، الرهاب الاجتماعي، واضطراب الوسواس القهري. تؤثر اضطرابات القلق على حياة ملايين الأشخاص حول العالم، وقد تؤدي إلى صعوبات في الدراسة أو العمل أو العلاقات الاجتماعية. وتشير الدراسات إلى أن القلق ناتج عن تداخل معقد بين عوامل نفسية، بيئية، وجسدية — بما في ذلك الجينات.
الدور الجيني في القلق:
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن العوامل الوراثية تلعب دورًا ملحوظًا في تطوّر اضطرابات القلق. وتُعدّ دراسات التوائم من أبرز الأساليب المستخدمة لفهم هذا التأثير، حيث تُظهر نتائجها أن التوائم المتطابقة (الذين يشتركون في 100% من مادّتهم الوراثية) لديهم معدلات إصابة أعلى باضطرابات القلق مقارنةً بالتوائم غير المتطابقة (الذين يتشاركون في نحو 50% من جيناتهم). على سبيل المثال، أظهرت دراسة أن قابلية التوريث في اضطرابات القلق تتراوح بين 30% و40%، مما يدل على أن العوامل الجينية تسهم في ظهور القلق، إلى جانب تأثير البيئة.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت مراجعة منهجية نُشرت في مجلة Nature Reviews Neuroscience إلى وجود ارتباط بين بعض التغيرات الجينية ونشاط مناطق معيّنة في الدماغ مسؤولة عن تنظيم المشاعر، مثل اللوزة الدماغية (amygdala) والقشرة أمام الجبهية (prefrontal cortex)، وهي مناطق تلعب دورًا رئيسيًا في الاستجابة للضغط النفسي والتهديدات.
ورغم أهمية هذه النتائج، فإنها لا تعني أن الجينات وحدها مسؤولة عن اضطرابات القلق. بل إن التفاعل بين العوامل الوراثية والعوامل البيئية هو ما يحدد فعليًا ما إذا كان الفرد سيُظهر أعراضًا مرضية. يدعم هذا التفسير ما يُعرف في علم النفس البيولوجي باسم النموذج التفاعلي أو Diathesis-Stress Model.
توضيح: ما هو النموذج التفاعلي (Diathesis-Stress Model)؟
النموذج التفاعلي هو نظرية نفسية-بيولوجية تشرح كيف تتطور الاضطرابات النفسية، مثل القلق أو الاكتئاب، عند بعض الأشخاص دون غيرهم، رغم تعرضهم لنفس الظروف أو الصعوبات.
يعتمد هذا النموذج على عنصرين رئيسيين:
- الاستعداد (Diathesis):
وهو القابلية الجينية أو البيولوجية أو النفسية التي تجعل الشخص أكثر عرضة للإصابة باضطراب معيّن. مثلاً، وجود جينات موروثة تؤثر على تنظيم المزاج أو الاستجابة للتوتر. - الضغط (Stress):
ويُقصد به الظروف الخارجية الصعبة أو المرهقة التي قد يتعرض لها الشخص، مثل صدمة نفسية، فقدان، مشاكل دراسية أو اجتماعية…
الفكرة الأساسية لهذا النموذج هي أن وجود الاستعداد وحده لا يؤدي بالضرورة إلى الإصابة بالاضطراب بل يجب أن يقترن بتعرض الفرد لضغط نفسي كافٍ لتحفيز هذا الاستعداد الكامن.
بالمقابل، قد يتعرض شخص آخر لنفس الضغوط، لكنه لا يُظهر أعراض القلق لأنه لا يملك هذا الاستعداد الوراثي أو البيولوجي.
. الجينات المرتبطة بالقلق
تُظهر الدراسات الحديثة أن بعض الجينات ترتبط بوظائف الدماغ المرتبطة بالقلق. على سبيل المثال، جين 5-HTTLPR الذي يؤثر على تنظيم مادة السيروتونين، وهي ناقل عصبي يلعب دورًا كبيرًا في المزاج والاستجابة للضغط. الأشخاص الذين يمتلكون نسخًا معينة من هذا الجين قد يكونون أكثر حساسية للمواقف الضاغطة وأكثر عرضة لتطور القلق. كما وُجدت روابط بين اضطرابات القلق وتغيّرات في جينات أخرى تتحكم بإفراز الأدرينالين والكورتيزول، وهي هرمونات القلق والتوتر. لكن، يجدر بالذكر أن لا جين واحد يسبب القلق وحده، بل هو نتيجة تفاعل عدة جينات معًا
العوامل البيئية وتأثيرها على الجينات
حتى لو كان لدى الشخص استعداد وراثي للقلق، لا يعني بالضرورة أنه سيصاب به. البيئة تلعب دورًا حاسمًا في “تفعيل” أو “كبح” هذا الاستعداد الجيني، وهنا يأتي دور علم التخلّق الجيني (Epigenetics). هذا العلم يدرس كيف تؤثر العوامل الخارجية مثل الضغوط النفسية، الطفولة الصعبة، أو التعرض لصدمات، على طريقة عمل الجينات دون تغيير تركيبها. بمعنى آخر، يمكن للبيئة أن تغيّر من تعبير الجينات، فتزيد أو تخفف من خطر القلق.
لتوضيح ذلك.. تخيل طفلين لديهما نفس الاستعداد الوراثي للقلق أي يحملان نفس التعديلات الجينية المرتبطة بزيادة احتمالية القلق لكن تختلف بيئتهما بشكل كبير:
- الطفل الأول يعيش في بيئة هادئة ومستقرة، تحيط به عائلة داعمة ويشعر بالأمان والراحة. في هذه الحالة قد تبقى جينات القلق “مطبوعة” بشكل هادئ ولا تُفعل بشكل كبيرمما يعني أن الطفل قد لا يعاني من أعراض القلق أو تكون خفيفة جدًا.
- الطفل الثاني يعيش في بيئة مليئة بالتوتر والضغوط، مثل مشاكل أسرية متكررة أو تعرض لصدمات نفسية مثل التنمر أو فقدان أحد الأقارب. هذه الضغوط قد تؤدي إلى “تفعيل” الجينات المرتبطة بالقلق أي أن التعبير الجيني يتغير بسبب الظروف البيئية، مما يزيد احتمال ظهور أعراض القلق أو اضطرابات مزاجية.
هذا التفاعل بين الاستعداد الجيني والظروف البيئية هو جوهر مفهوم التخلّق الجيني (Epigenetics)، الذي يوضح كيف يمكن للبيئة أن تتحكم في مدى نشاط الجينات المرتبطة بالقلق دون أن تغير التركيب الوراثي نفسه.
تأثير الساعة البيولوجية والجينات على اضطرابات القلق
تلعب الساعة البيولوجية أو الإيقاع اليومي (circadian rhythm) دورًا محوريًا في تنظيم العديد من وظائف الجسم، مثل النوم، اليقظة، إفراز الهرمونات، وتنظيم المزاج. هذه الساعة تعتمد على جينات معينة تُنظّم توقيت النشاط البيولوجي وتضمن توازنها. الدراسات الحديثة أظهرت أن اضطرابات في هذه الجينات المرتبطة بالساعة البيولوجية قد تؤثر بشكل مباشر على قابلية الشخص للإصابة باضطرابات القلق. على سبيل المثال، خلل في جينات مثل CLOCK وPER يمكن أن يؤدي إلى اضطراب في دورة النوم والاستيقاظ، ما يزيد من مستويات التوتر والقلق. بالإضافة إلى ذلك، عدم انتظام الإيقاع اليومي يسبب تغيرات في إفراز هرمونات التوتر مثل الكورتيزول، مما يؤثر على قدرة الجسم على التعامل مع الضغوط النفسية.
لذلك، يُعتقد أن التداخل بين الجينات المسؤولة عن تنظيم الساعة البيولوجية وآليات الدماغ يؤثر بشكل كبير على ظهور اضطرابات القلق، مما يتيح فرصًا جديدة لفهم أعمق للقلق من منظور بيولوجي، ويفتح الباب أمام تطوير علاجات تركز على تعديل وتنظيم الإيقاع اليومي للجسم.
توضيح:
- جين CLOCK: هو جين رئيسي في تنظيم الساعة البيولوجية، يؤثر على تنظيم دورة النوم والاستيقاظ ويضبط توقيت العديد من العمليات الحيوية في الجسم على مدار 24 ساعة.
- جين PER (Period): هو مجموعة جينات (مثل PER1، PER2، PER3) تساعد في التحكم في الإيقاع اليومي من خلال تنظيم التعبير الجيني داخل خلايا الجسم، وتلعب دورًا مهمًا في ضبط دورة النوم واليقظة.
باختصار، هذه الجينات مسؤولة عن الحفاظ على التوقيت الحيوي في الجسم وأي خلل فيها ممكن يسبب اضطرابات في النوم والمزاج، وهذا مرتبط بزيادة احتمالية الإصابة باضطرابات القلق.
توضح هذه الصورة كيف تلعب جينات معينة دورًا رئيسيًا في ضبط الساعة البيولوجية التي تتحكم في نومنا وحالتنا النفسية.
- توجد جينات مهمة تسمى CLOCK وPER، وهذه الجينات تتعاون لتنظيم وقت النوم والاستيقاظ.
- جين CLOCK يُشغل الخلايا ليبدأ نشاطها، ثم يبدأ جين PER بالعمل ويرسل إشارة تُوقف نشاط CLOCK.
- هذه العملية تتكرر كل يوم تقريبًا، مثل عداد ينظم مواعيد النوم واليقظة.
- إذا تعطلت هذه الساعة أو اختل توازنها، قد يعاني الإنسان من مشاكل في النوم، وهذا الخلل قد يؤدي إلى زيادة الشعور بالقلق والتوتر.
الخاتمة
تشير الأبحاث إلى أن الجينات تلعب دورًا محوريًا في استعداد الفرد للإصابة باضطرابات القلق، لكنها ليست العامل الحاسم بمفردها. إن القلق نتاج تفاعل معقد بين العوامل الوراثية والبيئية والنفسية، وفهم هذه العلاقة المتشابكة أمر ضروري لتطوير أساليب علاجية فعالة. ومع تقدم المعرفة العلمية، تزداد فرصنا في تصميم تدخلات علاجية تستهدف الأسباب الجذرية للقلق بشكل أدق. رغم ذلك، لا يمكن إغفال أهمية العوامل المحيطة والدعم النفسي والاجتماعي في تحسين صحة الفرد النفسية. بالتالي، القلق ليس حالة حتمية، بل يمكن التحكم به وإدارته عبر فهم أعمق للتفاعل بين جيناتنا وبيئتنا.