على الرغم من ديناميكية هذا العصر والحركة المتفجرة والمستمرة نحو التطور ، لا يوجد فنان واحد أو عالم أو مفكر يستطيع أن يتجاهل أن خلود اسمه يترتب على بقاء عمله ، حيث أن كلاً منهم يشعر بارتياح عميق حين يستطيع أن يطمئن أن عمله سيظل باقياً أطول زمن مستطاع محافظاً على نضارته و ثباته، ولا يقنع بتلك المتعة العابرة التي تلهب مشاعره في حرارة ويقظة في ساعة الابتكار و الإبداع ، بل يتبع غريزة الفطرة في مناشدة أسمى المظاهر وتكييف مشاعره باحثا وراء معرفة الخواص الطبيعية حتى يكفل لعمله البقاء و الاحتفاظ برونقه .
دور الفنان
فالفنان المصور لابد أن يقنع نفسه بضرورة ارتباط الناحية الفكرية والشاعرية في عمله بالناحية الصناعية و أن كليهما متمم للآخر ، ومما يلاحظ ندرة من يفكر في هذا الارتباط الأساسي أثناء تأدية عمله لأنه أمر يحتاج إلى معرفة صحيحة .
نمو الإحساس باللون جاء بعد الإحساس بالشكل عند الإنسان الأول ، وكلما تقدمت الحضارة كلما زادت معرفة الإنسان بخواص المواد الطبيعية ومركباتها ومشتقاتها ، ثم أمكنه الاستعانة بالكيمياء على إيجاد ألوان صناعية غير ميسور الحصول عليها دائما في الطبيعة وأدت جهود البحث في عصرنا الحديث إلى تقدم صناعة الألوان للأغراض الفنية.
فن التصوير
وبلغ فن التصوير الزيتي أرفع مراتبه في القرن السادس عشر لاتجاه المصورين وتفضيلهم له على ما عداه من أنواع التصوير الأخرى لصلاحية مادة الألوان وغزارتها وما تميزت فيه للتعبير عن تلك الحماسة المتدفقة التي ألهبت شعورهم الفني ، ومع أن الألوان الزيتية تعتبر أحدث الطرق في فن التصوير إلا أنها تمتاز بكونها أعمق أثراً و أفضل تعبيراً عن الحقائق الكونية الملموسة في أشكال جميلة يرتاح إليها النظر .
التصوير هو الفن المعبر عن أجمل مظاهر الكائنات في شكل و لون، فبينما الشكل في ذاته يدل على كيان موجود ، نجد أن اللون يزيد من قوة إحساسنا بوجود هذا الشكل ويؤثر على كيانه ، لذلك يساعد اللون بقدر تنوع درجاته على إثبات الشكل و توضيحه.
فن الرسم بالألوان الزيتية
يعتبر الزيت أهم عنصر في تركيب هذا النوع من التصوير وهو مادة أساسية في مزج الأصباغ الملونة ويكسبها صلابةً ويحافظ على قيمة درجة اللون بعد جفافه وتكتسب الألوان معه لمعة كالطلاء الزجاجي الشفاف يساعد على إشعاع الضوء المنتشر في المكان ويزيد من جمال الصورة ، وعندما يتفاعل الهواء مع الزيت يكسب الألوان قوة احتمال وصلابةً ومرونةً.
لما كان انتقاء المواد الصالحة لعجن الألوان الزيتية وحفظها من الفساد ترجع في غالبيتها إلى حسن الإدراك و الخبرة الشخصية التي تميز صانع على صانع آخر، فان ذلك لم يكن كافيا خاصة عند الشعوب التي خضعت للاستعمار قديما إذ كانت أكثر المواد المستعملة كواسطة في ربط وتماسك الأصباغ الملونة مع الزيت عند فناني هذه الشعوب هي الشمع و الفازلين و الدهن بأنواعه وجميعها لا تعطي نتائج مرضية أنها تؤثر على نقاوة درجة الألوان وتفقدها حيويتها ونضارتها وكثيرا ما تذهب بالقيمة العينية لبعض الألوان أي درجة اللون المميزة له أثناء أكسدتها أي الفترة التي يتم في خلالها جفاف اللون.
توجه الفن وفق السياسة
وليس ذلك لجهلهم بمستلزمات هذا الفن ولكنها السياسة الاستعمارية التي ربطت من جهة فناني هذه الشعوب بتوجهات وأساليب المدارس الفنية الغربية ، ومن جهة أخرى امتصت بعض مشاعر الغبن والتهميش بإظهار مشاركة أبناء الشعوب المستعمرة في حركة التطور الفني ولكن إلى الحد الذي لا يبقي أثراً على المدى الطويل لأي محاولة تمجيد أبطالها وتخليد مآثرهم فنياً إذ سرعان ما ستفقد الأعمال التشكيلية بريقها بسبب الوسائط المتواضعة بينما احتفظت الدول الاستعمارية بأفضل الوسائط التي تضمن بقاء أعمال فنانيها في أحسن حال ولأطول مدى ومنها بالطبع أعمال فنية تمجد رموزها الوطنية و تنزه سياساتها الاستعمارية ذلك لأنها تعي جيدا أن أحلام الحرية و العدالة قد تبدو في تغيرات بصرية تشكيلية ، وأن الأعمال الفنية تسجل تاريخا ، و بما أن لا معنى لتاريخ لا يرتبط بحدث فان تسجيل الأحداث فنيا يضعنا أمام فرضية أن التاريخ يصنع تاريخا، أي أن تسجيل اللحظة فنيا يؤرخها ، ذلك هو الاستغلال الفني للمعطيات الوطنية لتحقيق الأهداف سياسية .
الفن الأدبي
ليس الفن الأدبي أو التشكيلي مرآة الحقيقة فقط بل مطرقة يمكن بها تشكيل الحقيقة وذلك عندما تتحول الروايات من السردية الكتابية إلى صور مرئية تجسد الحياة الاجتماعية بكل أبعادها ، وتتناول طبيعة تفاعلات مختلف القوى مع قضاياها ، وتقوم بتفصيل الواقع المعاش في فرحه وترحه وفي انتصاراته و انكساراته ، وإذا كانت الأعمال الابداعية هي الأعمال المتشعبة المعارف والمدارك فهناك من قام بمزج عجيب بين مختلف الأنواع الأدبية والفنية عبر العصور من خلال خبرته ومعرفته الدقيقة بعلم النفس والتقاطع الحميم بين الشعر والسياسة لتقديم منتوج فكري راق ، وهناك من الأعمال ما تصيبنا بمشاعر هادئة لنصوصها الإبداعية العميقة والفريدة فتجدنا نجدد قراءتها لنعيد اكتشاف ما فاتنا من تفاصيل ، ولكن من الأدباء من يجنح إلى محاولة التنظير ويبتعد عن الأسلوب البسيط الواقعي، وأكثر ما تظهر شخصية الكاتب في النصوص هي من خلال ما يقصه لنا من أعماله ومحاولاته ونجاحاته وإخفاقاته وقد يصل بنا إلى مواقف وجد فيها نفسه على حافة الهاوية ، أو أمام حالة مبهمة أو رؤى باهرةً بمعنى أنه قد ينزلق فيتطرق لأمور يمكن أن تبديها السلطة ومنها تعرضه لتلك القرارات التي لا ينبغي أن تعرف فلها وقتها حين تأتي بنتائجها .
الفنون الإغريقية
يرشدنا تاريخ الفنون أن الفنون الإغريقية بدأت تخطو خطواتها الأولى حين أعلن لأول مرة عن احترام حقوق الفرد وحريته، وأن شخصيته المستقلة في ذاته هي جزء من الكل ، وأن وحدة الشعب من جماعة الأفراد ، لذلك كانت بوادر هذه النهضة تعتمد على عبقرية الفرد وتشجيع كل ما يستطيع أن يأتي به في الفلسفة والعلوم والفنون ، لذلك كانت الفنون الإغريقية في جوهرها فنون شعبية صادقة في تقرير العرف وما انتظمت عليه الحياة من قواعد ونظم ، أي أنها فنون ذات أثر ملموس ومحسوس ، وهكذا ذابت الرمزية الخيالية وسطعت أنوار الحقيقة والمثالية في الفنون فأكسبتها جلاء بعد إبهام ووضوحاً بعد غموض وانعكست على صفحات الذهن صور الجمال الشكلي مادة منظورة تعبر عن حقيقة وجودها وحيويتها فكانت إبداعاتهم الفنية أقرب إلى الحقيقة الحسية منها إلى الخيال الوهمي وأقرب إلى المادة ومنطق الحقيقة الواقعة منها إلى الروح ومنطق الشعور وتلك هي أسمى مظاهر العلاقة الجدلية بين الفن والسياسة .
الفن التعبيري
إن أكتر الافتراضات الحديثة ذيوعا في علم الجمال هي ” أن الفن تعبير” ، ومع انتشار القول بأن الفن هو الوسيلة للتعبير عن الجمال فمن الخطأ تركه دون تأمل مفهومه عبر التاريخ ، فالتعبير يختلف في عصر عنه في عصر آخر ، كما أن فلسفة التعبير الجمالي تعد كذلك عبارة جوفاء بل يزداد فهمها تعقيدا إذا لم تحط بثلاثة أمور :
- قدرة الفنان على تطبيق هذا القول في عمله
- نوع العمل الفني ومدى ما يحققه من تعبير
- وتفسير علماء الجمال للمضمون الخفي المضمر في الفن.
ومن هذه الأمور يتضح لنا بوضوح الاختلاف بين المذاهب الفنية ، ولنضرب لذلك مثلاً النزاع الذي ظل قائماً في القرن التاسع عشر بين الفنان العاطفي ( الرومانتيكي) ، والفنان البطولي (الكلاسيكي) أي بين العاطفة و العقل ، فالأول يندفع بالعواطف الثائرة العنيفة ، ويصور رغبات النفس في حرارة، بينما ينادي الثاني بأن ما يراه بعينيه لابد أن يمر بعقله ليخرج من قلبه في أسلوب مشبع بأهوائه ، وفي كل الأحوال تلتقي النفوس المؤمنة بضرورة الفن في الحياة .
الفن والفلسفة
يرتبط علم الجمال بالفلسفة ، ويستمد منها الضوء الذي يسترشد به وينير له الطريق ليسلطه بدوره على العمل الفني عندما نتأمل الجمال فيه ، أو نتأمل شعورنا و استمتاعنا به ، أو عندما نحاول أن نجد حلولا للمشكلات التي تعترضنا في تفسير الفن ، وإذا كان من خصائص الفلسفة تنوع عقول المشتغلين بها فإنه لا يمكننا أن نفرق بين الفلسفة و الجمال ، لأن مشكلات الفلسفة تتضمن العلاقات التي تربط العمل الفني بسائر الأعمال العقلية وتدل على أوجه الخلاف أو الاتفاق بينها ، والميل إلى الذاتية في مباحث الفلسفة الحديثة هو دليل على رقي القوة العقلية ، والمخيلة الملهمة الخلاقة ، والتحرر من قيود الأوضاع التقليدية ، وهو دليل آخر على الرغبة في الارتقاء بمستوى التأمل، والجدل المنطقي لتوسيع مداركنا وإحساسنا وتمييزنا لصفات الجمال و معانيه ، وإيحاد الصلات بين هذه الصفات ، وبالتالي يصبح علم ” فلسفة الجمال ” هو علم الفن ، ويهتم اهتماماً خاصاً بالجوانب التي تتضمنها الفنون يؤكدها .
إذا كان الشعور بالألم يورث الرغبة في استجماع أسباب السعادة واجتناب الألم ، تكون في هذه الحالة الرغبة هي المحرك الأساسي للإرادة والباعثة على العمل ، ومن هذه الحقيقة ، أي الألم ، يتكون الإحساس ومن قوة الإحساس يشعر الإنسان بالوجود ، واستحالة الإحساس المستمر بالألم يجعلنا نحس بنعيم السعادة الروحية تارة ، ومشقة الألم تارة أخرى ، وكما أننا لا نستطيع أن نشعر بالسعادة إذا استمر الألم ، فإننا كذلك لا نستطيع أن نشعر بالألم أذا استمرت مسببات السعادة ، والشعور بهاتين الحقيقتين نسبي تبعا للأحوال ، والإنسان الذي تميز بالإحساس المرهف هو أشد الناس تألما ، وهو أكثرهم رغبة في السعي وراء ما يدخل على نفسه السرور ، والفنون الجميلة هي من بواعث الشعور بالسرور و السعادة الروحية فإذا أحس الإنسان بالألم بحث عن العزاء ولجأ إلى أحب ما تهواه نفسه ليخفف عنها الألم ، والفن هو عزاء الفنان حين يشتد به الحزن ويثقل عليه ، فينتقل بروحه إلى عالم جديد يهدأ فيه باله وتطمئن إليه نفسه فينسى آلامه حين تنقطع صلته الحسية بهذا الألم ، فالفنون الجميلة هي لأصحابها عزاء منقطع النظير لأنها متعة للنفوس وللناظرين لأن الفن يبحث عن الجمال في الحقيقة.