الوعي الزائف: كيف تُشكّل المجتمعات وهم الحرية؟

الحرية… تلك الكلمة التي تتردد على كل لسان، وتُرفع كشعار في كل ساحة، وتتصدر كل خطاب سياسي وإعلاني؛ لكنها في الواقع المفردة الأكثر استهلاكاً والأقل فهماً في عصرنا الحالي. هذا الاستهلاك المكثف لفكرة الحرية أدى إلى تفريغها من معناها الحقيقي وحوّلها إلى مجرد “منتج” يُسوَّق بلا روح، تُباع وتُشترى مثل أي سلعة. فهل الحرية اليوم قيمة إنسانية أصيلة، أم أصبحت ديكوراً عصرياً في حملة إعلانية؟

الحرية… من قيمة إنسانية إلى سلعة استهلاكية

في أسواق الإعلام والسياسة، نجد مصطلح الحرية يُستخدم بوفرة ملفتة: “اختر طريقتك”، “كن أنت”، “لا تضع حدوداً لأحلامك”. تتكرر هذه الشعارات حتى تتحول إلى جزء من الضجيج اليومي، وتتحول الحرية نفسها شيئًا فشيئًا إلى استهلاك سطحي. نحن نظن أننا نكسر القيود لنكتشف مع الوقت أننا قد نستبدلها بسلاسل جديدة أكثر أناقة، فنرضى بزيف الاختيار ونكتفي بالشعارات الجاهزة.

يؤكد الفيلسوف الألماني هربرت ماركوز في كتابه “الاستلاب والحرية” أن المجتمعات الرأسمالية الحديثة لا تلغي فكرة الحرية، بل تعيد هندستها لتصبح آلية من آليات السيطرة والتحكم. نحن مخيرون بالفعل، لكن ضمن لائحة خيارات مرتبة بعناية وصُنعت لتخدم النظام القائم. وهكذا، تفرغ الحرية من جوهرها وتتحول إلى استجابة تلقائية لخيارات محددة مسبقاً.

وهم الوعي الزائف… حين نصدق الحقيقة المفصَّلة لنا

يرتبط الالتباس في مفهوم الحرية بما يسميه المفكرون الماركسيون “الوعي الزائف”. هذا المصطلح يشير إلى حالة إدراك مشوّه للواقع، تنتج عن سيطرة الخطاب السائد على وعي الأفراد. نحن لا نبصر العالم كما هو فعلاً، بل كما يُراد لنا أن نراه بحسب ما تحدده أدوات الإعلام والمؤسسات الكبرى.

خذ إعلان “حرية التعبير” في زمن المنصات الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي. كثيرون يعتقدون أننا اليوم نعيش عصراً ذهبياً للحرية لأننا نغرد وننشر ونعلق بلا سقف واضح. لكن الحقيقة قد تكون معكوسة: نحن نعيد إنتاج وتداول الأفكار الدارجة ضمن أطر وضعتها لنا خوارزميات تحكمها مصالح تجارية وسياسية. تُقدم لنا هذه الخوارزميات فقط ما يشبه قناعاتنا، فنظن أننا أحرار بينما نحن محجوبون في فقاعة آراء مترابطة. هكذا يكتمل وهم الوعي الزائف، فندور في دائرة ضيقة ونظن أنفسنا في فضاء مفتوح.

الإعلام الحديث… صناعة القناعة لا نقل المعلومة

الإعلام اليوم لم يعد مجرد وسيط لنقل الخبر أو عرض الرأي. بل تطورت وظائفه ليصبح شريكاً رئيسياً في تصنيع الوعي الجمعي وصياغة الإدراك الفردي. الإعلام الرقمي بمحتواه السريع وعناوينه الجاذبة وثقافة “الترند” السائدة لا يمنح المشاهدين فقط المعلومة، بل يرسم إطار تفكيرهم ويحدد موضوعات وأولويات نقاشهم.

مع تسارع المحتوى وازدحام منصات التواصل، يتحول النقاش إلى صراخ عابر، والمعرفة إلى منشور سريع تتغير أهميته كل ساعة. في هذا المناخ، تُختزل الحرية في صورة استهلاكية باهتة، ويُخلَق وعي هش ينفصل عن التأمل العميق والنظر النقدي. هنا، تتحول الحرية إلى فكرة “متداولة” بدلاً من أن تكون ممارسة وفهماً راسخاً.

كيف ننتقل من وعي استهلاكي إلى وعي نقدي حر؟

السؤال الجوهري: كيف يمكن استعادة الحرية كقيمة حقيقية في عصر تسليع الوعي وتسويق المفاهيم الجاهزة؟ كيف نخرج من دائرة الوهم إلى فضاء النقد الفعلي؟
الإجابة تبدأ بشك جاد ومسؤول، لا بإنكار عشوائي أو تذمر آني.

يجب أولاً أن نتعلم الشك البناء ونبحث عن الدوافع والأسئلة قبل التصديق السهل. أن ندقق في من كتب المعلومة، ولماذا كُتبت، وما الغرض الحقيقي من ورائها. يجب أن نستعيد فكرة “القراءة البطيئة” التي تمنحنا القدرة على التأمل، ونعلّي من شأن الحوارات العميقة بدلاً من النقاشات السطحية.

كما نحتاج لتفكيك الخطاب الإعلامي، وملاحقة مصادر المعرفة، ومراجعة المنظومات الفكرية التي تقف وراء انتشار “الوعي المُعلب”. علينا الاعتراف أن إطلاق الشعارات دون مراجعة ذاتية للنوايا والمعاني الحقيقية، لا يصنع حرية ولا يثري وعياً.

الحرية مسؤولية ووعي وممارسة

في نهاية المطاف، الحرية ليست حقاً مضموناً أو هدية مجانية تُوزع في حملات سياسية أو إعلانات تجارية. هي مسؤولية فردية وواعية تبدأ بالسؤال: لماذا أقول ما أقول؟ من كتب هذا الكلام؟ وما هدفه الخفي؟
الحرية تتجلى في قدرتنا على نقد ذواتنا بأنفسنا وتجاوز الفقاعات الرقمية التي تحاصرنا.
في زمن استهلاك الشعارات، ليس أصعب من أن تكون حراً، إلا أن تكون واعياً لماذا تريد الحرية ولأي غاية.

المعلومات المقدمة حول هذا الموضوع ليست بديلاً عن المشورة المهنية ، ويجب عليك استشارة أحد المتخصصين المؤهلين للحصول على مشورة محددة تتناسب مع وضعك. بينما نسعى جاهدين لضمان دقة المعلومات المقدمة وحداثتها ، فإننا لا نقدم أي ضمانات أو إقرارات من أي نوع ، صريحة أو ضمنية ، حول اكتمال أو دقة أو موثوقية أو ملاءمة أو توفر المعلومات أو المنتجات أو الخدمات أو ما يتعلق بها الرسومات الواردة لأي غرض من الأغراض. أي اعتماد تضعه على هذه المعلومات يكون على مسؤوليتك الخاصة. لا يمكن أن نتحمل المسؤولية عن أي عواقب قد تنجم عن استخدام هذه المعلومات. يُنصح دائمًا بالحصول على إرشادات من محترف مؤهل.