تعرف على أدب الرحلة عبر التاريخ

يميل الإنسان بفطرته إلى استطلاع طبيعة مظاهر الحياة المختلفة حوله والتطلع إلى الآفاق براً وبحراً، ويدفعه فضوله المتأصل فيه إلى محاولة التعرف أكثر على طبائع الشعوب الأخرى البعيدة عنه والاطلاع عن قرب على أنماط معيشتهم ذلك لأنه طبع على حب المعرفة ، وهذا الميل كان دافعه للرحيل نحو الآفاق الفسيحة وتنظيم الرحلات البرية والبحرية إلى مناطق بعيدة وغير معروفة، كانت في أول الأمر أشبه بالمغامرة المحفوفة بالمخاطر.

تاريخ أدب الرحلة

نشط أدب الرحلات في البداية على أيدي الجغرافيين والمستكشفين للثروات الطبيعية خاصةً الذهب والأحجار الكريمة، ولم تكن المعلومات الضرورية متوفرة بالقدر الكافي لمواجهة ما قد  يصادفهم من غرائب أثناء رحلتهم البعيدة التي كانت بحق سفر نحو المجهول لأنها كانت تفتقد إلى إمكانية وضعها داخل حدود التوقع، لذلك فإن ما مر بكل منهم من أحداث في أحد البلدان كان جديرا لغرابته بتسجيله في شكل “مذكرات” تكاد تكون يوميةً حتى لا تهمل  فتنسى ، وبعد انتشار القوافل التجارية واكتشاف العوالم الجديدة والفتوحات الإسلامية تطور الأمر إلى بروز “كتابات ” توفرت فيها عناصر السرد والوصف والحوار لتحقيق المتعة والفائدة فمثلت هذه الكتابات الصورة القديمة للقصة لأنها كانت تتسم بنزعة قصصية طبيعية تعتمد على الإثارة والتشويق ، ثم ما لبثت إلا أن تحولت إلى نوع من الفنون الأدبية وهو ” أدب الرحلة ” الذي فيه يستقي الكاتب المعلومات والحقائق من المشاهد الحية والتصوير المباشر ويوثق كل يصادفه عبر رحلاته وينقل كل ما رآه في طابع أدبي لا يخلو من تقنية الوصف.

مكونات أدب الرحلة

يشمل أدب الرحلة نقل المواصفات الطبيعة الموجودة في مناطق العالم غير المكتشفة، كما يحتوي على سرد العادات والتقاليد لدى شعوب هذه المناطق، وبقدر ما يتضمن أدب الرحلة من شعرية الوصف بقدر ما تتم معايشة القارئ لفكرة الرحلة ويتحقق استغراقه في أبعادها الزمنية والمكانية والنفسية، ومنها يتشكل الارتباط الوجداني على الرغم من بعد المكان، وعلى قدر رهافة وشعرية الوصف يقوى أو يفتر هذا الارتباط ، على أن إضفاء الشعرية في الوصف  تخضع لمقدار شفافية الكاتب وحساسيته تجاه الظواهر المتنوعة أي قوة تأثره بها من جهة، ومن جهة أخرى إلى قوة تأثير الطبيعة على النفس البشرية بما تتمتع به من عوامل جذب وإبهار، فشعرية الوصف لدى الكاتب الرحالة بالمناطق الجبلية حيث تكسو الثلوج البيضاء أشجار الصنوبر لن تكون نفسها لدى من تأثر بمروره على الضفاف الخضراء للأنهار العذبة المترقرقة وقت الأصيل، ولن تكون نفسها أيضاً لدى من يتواجد في مضارب الخيام أسفل النخيل الباسقة وسط أمواج الرمال الذهبية في الصحراء.

أشهر أدباء الرحلة

من أشهر الرحالة العرب الذين اهتموا بتوثيق رحلاتهم وكتابة القصص حول الأحداث التي مروا بها في الأماكن التي ذهبوا إليها كل من الإدريسي الأندلسي في كتابه ” نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” ، والمسعودي مؤلف ” مروج الذهب” وابن بطوطة وابن فضلان وابن الجبير الأندلسي الذي قضى 10 سنوات متنقلاً بين مكة وبيت المقدس والقاهرة سجل خلالها مقاومة المسلمين للغزو الصليبي بقيادة صلاح الدين الأيوبي، والمقدسي صاحب ” أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” والبيروني الذي وثق رحلته إلى الهند التي أقام فيها نحو 40 سنة انطلق فيها سائحاً متأملاً في رحلته المسماة ” تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة أو مرذولة ” وكان له الفضل من خلالها في نقل أدب الرحلات إلى مرحلة متقدمة لدراسة ثقافات الشعوب ممثلة في لغتها وعقائدها وعاداتها، إلى جانب الكتاب الشهير في أدب الرحلات ” الفاشوش في حكم قراقوش” الذي كتبه ابن مماتي أديب قبطي مصري وهو في عصر صلاح الدين الأيوبي ينضح بالسخرية والتهكم من أحد القادة مساعدي صلاح الدين وهو بهاء الدين قراقوش وقد أبدع الأديب القبطي في التشنيع به، هذا إلى جانب آخرين تركوا أعمالا جعلت أدب الرحلات شكلا فنيا داخلا في الأدب مثل ماركو بولو، تشارلز داروين، أندريه جيد، إرنست هيمنجواي ونجيب محفوظ، وكلهم جمعتهم فكرة الرحلة من أجل تحقيق وعمل دراسة تاريخية وجغرافية حية.

أهمية أدب الرحلة

بالإضافة إلى ذلك،أصبح أدب الرحلات من بين أهم المصادر الجغرافية والتاريخية لأن الكاتب يقوم بمهمة التوثيق الدقيق لمشاهداته والتسجيل الصادق لتجاربه عبر رحلاته كلها، وقد أثمر الكثير منها في إلقاء الضوء الكاشف واسعاً على ما خفي من الأمور، أو أفاد في إزالة غبار التشويه العمدي عن بعض الحقائق، ولفت الأنظار إلى ما تعرضت له بعض الأحداث من تجهيل وتعتيم، فأدب الرحلة يوثق بحيادية عفوية للعديد من الأحداث التاريخية المهمة ويهتم بتسجيل المعلومات الجغرافية حول المناطق الجديدة التي لم تطأها من قبل قدم إنسان ، وينقل وصفا صادقا عن العادات السائدة عند سكان المناطق التي وصلها الرحالة، وبراعة التصوير تجعلنا نسافر إلى الأماكن ونتخيل أنفسنا فيها، ويعتمد أدب الرحلة على نقل التاريخ بصورة واقعية أي سرد قصص حول حياة وبطولات شخصيات حقيقية قام الكاتب الرحالة بتقريبها وتعريفها لأقوام آخرين ،ويتميز الكاتب الرحالة المغترب بنظرة ثاقبة وفكر نقدي متوهج يؤهله لإعطاء تفسيرات للمبهم من الأمور لدى حتى مواطني المنطقة الأصليين، وعلى قدر غزارة الإنتاج الأدبي للكاتب الرحالة بقدر ما نال التقدير على خلفية أنه كان متميزا في جيله ومجددا في طرحه وكان امتدادا بحثيا في عوالم داكنة ، منهم من تصادف حضوره الشخصي مواقف بالغة الخطورة والحساسية وكانت له فرصة الاطلاع عن كثب على تطورات أحداث مصيرية ومتابعة مستجداتها فأسهموا في كشف حقائق مثيرة مثل بروز المتمردين ونشاط القراصنة ،عولمة التجارة وعلاقتها بإغراق العالم بالسلاح ،انتشار المجموعات الجهادية، مظاهر الظلم السياسي، واندلاع النزاعات والحروب، والحروب الأهلية في الدول الهشة ،والانقلابات والصراع بين الأغلبية والأقليات وتمرد الحركات الانفصالية ، ومنهم من أسهم في التقريب بين الشعوب وفي تنشيط التجارة بينهم وتبادل التجارب الحياتية والعلمية .

جمالية أدب الرحلة

يقتضي الوقوف على جمالية أدب الرحلة البحث في أدبية الرحلة وجماليات تلقيها، ويتطلب هذا بدوره التسجيل السريع لأحداث الرحلة حتى لا يتعرض الكاتب بعد تقدمها إلى النسيان وإلى مواجهة مشكلة الاجتهاد في معضلة التوفيق بين صورة الواقع وجمالية المتخيل، وأدب الرحلة يتميز عن غيره من الفنون بثراء مضامينه وتنوع مواضيعه واختلاف مستويات الأسلوب في التعبير عنه ، وأدب الرحلة فيه عناصر أدبية وظاهرة فنية تضفي عليه جمالية تقربها من دائرة الأدب ، ومع ذلك فقد داعب الخيال عقول البعض ممن وصلت أسماعهم أخبار عن أساطير تدخل في باب الخرافة وأرادوا التأكد من حقيقتها، كما نشأ نوع آخر من أدب الرحلات وهو القصص الشعبية مثل السندباد البحري المدمن للرحلات البحرية والمغامرات، وملحمة أبو زيد الهلالي وملحمة جلجامش البابلية، وملحمة الأوديسا الإغريقية وأساس كل هذه الملاحم هو حكاية رحلة يقوم بها البطل لتحقيق هدف معين.

شخصية كاتب أدب الرحلة

يمكن تلمس ذاتية الكاتب الرحالة في الكثير من أعماله وذلك من خلال الزاوية التي نظر منها للأحداث، والى قناعاته الخاصة تجاهها ودرايته الكاملة بجوانبها وأسبابها التي تحدد موقفه منها ، ومن خلال ما أبانه من تعاطف أو ارتباط وجداني مع المنطقة التي زارها أو نفوره من سكانها ، فأدب الرحلة انعكاس لعمق الحالة الوجدانية والمعنوية للكاتب الناتجة من ارتباطه النفسي بالمنطقة التي زارها ، والتي تطورت تدريجيا في الكثير من الحالات  إلى حد بداية تعلم حدود المواطنة وقواعد الانتماء واكتساب الشعور بالحب وأصول الولاء ويعد أدب الرحلة كذلك نوع من السيرة الذاتية في حد ذاته للكاتب الرحالة لما يتضمنه من المعلومات الأساسية التي تعرف شخصيته تعريفا شاملا، ولما يحتويه من تفاصيل دقيقة عن مسار حياته العملية واستعراضاً تاريخياً لنجاحاته وإخفاقاته، ولما يمنحه من إمكانية الرؤية الواسعة لتبصر مختلف إنجازاته، لذا يوصف أدب الرحلة بالسيرة المروية لإنسان غير مستقر .

قد لا نكون مبالغين إذا اعترفنا لأدب الرحلة بفضل إسهاماته الجليلة في إحداث التقارب بين الشعوب ، وفي دوره الفعال في التقاالثقافات وفي إحداث التطور في الفكر والتنامي في البحث، وأدى بتنوعه إلى خلق حب المعرفة وإثارة الشوق للمطالعة حتى أصبحت ممارسة ثقافية من أجل تنمية الذكاء والقدرات الابتكارية ومعرفة الموروث الثقافي الوطني والعالمي والتفتح على عالم الأفكار وعلى ثقافات الشعوب الأخرى.

المعلومات المقدمة حول هذا الموضوع ليست بديلاً عن المشورة المهنية ، ويجب عليك استشارة أحد المتخصصين المؤهلين للحصول على مشورة محددة تتناسب مع وضعك. بينما نسعى جاهدين لضمان دقة المعلومات المقدمة وحداثتها ، فإننا لا نقدم أي ضمانات أو إقرارات من أي نوع ، صريحة أو ضمنية ، حول اكتمال أو دقة أو موثوقية أو ملاءمة أو توفر المعلومات أو المنتجات أو الخدمات أو ما يتعلق بها الرسومات الواردة لأي غرض من الأغراض. أي اعتماد تضعه على هذه المعلومات يكون على مسؤوليتك الخاصة. لا يمكن أن نتحمل المسؤولية عن أي عواقب قد تنجم عن استخدام هذه المعلومات. يُنصح دائمًا بالحصول على إرشادات من محترف مؤهل.