سرّ المحلل العجوز: اختزل التحليل المالي بـ FCF والحجم (دليلك للاستثمار الذكي)
كانت الساعة تشير إلى الثالثة فجراً، وهدير حاسوبي المحمول هو الرفيق الوحيد في مكتب يعجّ بالرسوم البيانية المتشابكة والأرقام التي لا تنتهي. عشرون عاماً في وول ستريت ودبي علّمتني أن الأسواق لا تحب التعقيد. هي تحب القصص، لكنها تُدار بالحقائق.
في تلك اللحظة، ومع فنجان قهوتي الثالث، خطر لي ذلك التبسيط الذي يغير قواعد اللعبة: هل يمكن اختزال فنون التحليل المالي العميقة، بمدارسها وكتُبها، في مفهومين أساسيين لا ثالث لهما؟
الجواب، من واقع خبرتي المتواضعة التي تجاوزت عقديّن من الزخم، هو نعم.
التحليل الأساسي: النبض الحقيقي للأعمال
لطالما سُئلت عن المؤشرات التي يجب التركيز عليها عند دراسة شركة ما. هل هي الأرباح؟ الإيرادات؟ مضاعف السعر إلى الأرباح (P/E) ؟
أجيبهم الآن بعبارة واحدة حاسمة: التدفق النقدي الحر (Free Cash Flow – FCF).
FCF: المال المتبقي بعد كل شيء
التدفق النقدي الحر هو الشريان الحيوي للشركة. إنه يمثل المال المتبقي فعلياً بعد أن تدفع الشركة جميع نفقاتها التشغيلية والاستثمارية الضرورية للحفاظ على أعمالها ونموها.
التحليل الأساسي = التدفق النقدي الحر (FCF)
لماذا هو الأهم؟
1. حماية ضد التلاعب المحاسبي: الأرباح (Net Income) يمكن أن تتأثر بسهولة بطرق الاستهلاك، أو مخصصات الديون المشكوك في تحصيلها. أما الـ FCF، فهو نقد حقيقي في الخزينة.
2. قوة اتخاذ القرار: هذا النقد الحر هو الذي يسمح للشركة بدفع التوزيعات، أو إعادة شراء الأسهم، أو الاستثمار في مشاريع نمو جديدة. إذا كان التدفق النقدي الحر قوياً ومستداماً، فلديك شركة صحية قادرة على مكافأة المستثمرين وتوسيع أعمالها.
إذاً، عندما نحلل أساسيات شركة، فإننا نبحث ببساطة عن: كم من المال الإضافي يتبقى لديها كل عام؟ هذا هو قيمة الشركة الحقيقية.
التحليل الفني: قوة الإقناع خلف السعر
ننتقل إلى التحليل الفني، حيث تهيمن الشموع اليابانية والمؤشرات المتأرجحة. يركز الفنيون على حركة السعر (Price Action) كمحور أساسي، وهذا صحيح. لكن ما الذي يضفي المصداقية على هذه الحركة؟
الإجابة المباشرة هي: الحجم (Volume).
الحجم: إجماع اللاعبين الكبار
الحجم هو عدد الأسهم المتداولة في فترة زمنية محددة. إنه يمثل “مقدار الاقتناع” خلف أي حركة سعرية.
التحليل الفني = الحجم (Volume)
لماذا هو الحكم النهائي؟
تخيّل أن سعر سهم ما قفز فجأة بنسبة 5%، ولكن بكمية تداول ضعيفة جداً. هذه الحركة قد تكون خدعة أو نتيجة طلب فردي صغير. إنها أشبه بـ “صوت خافت” في قاعة ضخمة.
على العكس، إذا قفز السعر بنسبة 5% مصحوباً بـ حجم تداول هائل، فهذا يعني أن “المال الذكي” (Smart Money) واللاعبين الكبار والمؤسسات قد تحركوا جميعاً، واتخذوا موقفاً موحداً. هنا، يصبح التحرك صوتاً مدوياً يصعب تجاهله.
• كسر المقاومات: لا معنى لكسر مستوى مقاومة قوي ما لم يكن مدعوماً بحجم تداول أعلى من المتوسط.
• عكس الاتجاه: لا يمكن تأكيد انعكاس الاتجاه الهابط ما لم يظهر المشترون الجُدد بقوة، وهذا يظهر في زيادة الحجم.
الحجم هو مقياس السيولة، الاهتمام، والإجماع في السوق.
الاندماج: حيث يلتقي المنطق بالحركة
بطبيعة الحال، الأسواق أعمق بكثير من هذه الثنائية، حيث يلعب التقييم، وتوقيت السوق، ومخاطر سعر الفائدة أدواراً حيوية.
لكن المذهل هو مدى فاعلية هذا الاختزال كـ “مرشح مبدئي” لقراراتك الاستثمارية:
1. ابحث عن الأصول: حدد الشركات التي لديها تدفق نقدي حر (FCF) قوي ومستدام. أنت الآن تعرف أنك تمتلك أصولاً ذات جودة.
2. اختر التوقيت: راقب تلك الشركات على الرسم البياني، وانتظر اللحظة التي يتدفق فيها الحجم (Volume) الكبير لتأكيد انطلاق السعر.
من خلال هذه العدسة المزدوجة، ننتقل من مجرد تحليل عشرات المؤشرات إلى التركيز على ما يهم حقاً: القيمة الداخلية (FCF) و القوة الدافعة (Volume).
هذا التبسيط ليس غباءً، بل هو ذروة الحكمة الاستثمارية. وعندما يتعلق الأمر بالمال، فإن الوضوح يغلب التعقيد دائماً.

