في الصورة النمطية للأسرة، نرى وجوهاً مبتسمة حول مائدة، ودفئاً يملأ المكان، وضحكات تتقاطع على وقع الأحاديث اليومية. لكن ما لا تُظهره تلك الصور هو الكم الهائل من الصمت المختنق، والنظرات الهاربة، والقلوب التي تنكمش داخل جدران تفترض أن تكون مأوى.
وراء الأبواب المغلقة، يعيش كثيرون اليوم مع أهلهم، شركائهم، أو أولادهم… لكن لا أحد يعرف الآخر حقاً. غرباء تحت سقف واحد، يجمعهم العنوان… وتفرقهم الأرواح.
◾ من البيوت إلى المتاحف العاطفية
في منازل كثيرة، لم تعد العلاقة الأسرية قائمة على الحوار والمشاركة، بل تحولت إلى روتين آلي يفتقد للروح. الكل مشغول. الكل متوتر. الكل متألم. لكن لا أحد يفتح فمه.
الأب حاضر بجسده، غائب بمشاعره. الأم غارقة في تفاصيلها اليومية، متعبة بصمت. الأبناء محاصرون بين الشاشات والهروب من مواجهة الحقيقة. ومثل متاحف مهجورة، تمتلئ هذه البيوت بأشياء من الماضي: صور قديمة، ذكريات باهتة، وأثاث لا يشتكي.
◾ عندما يصبح الصمت لغة رسمية
الصمت في الأسرة لم يعد دليلاً على الراحة، بل على الجفاء. لا حوارات تبنى، لا أسرار تشارك، لا أحضان تمنح. وحين يتحدث أحد، تأتي الردود كأنها بروتوكول إداري لا يحمل حرارة أو اهتمامًا.
وهكذا، تتحول البيوت إلى أماكن إقامة لا أكثر. يسكن فيها أشخاص تجمعهم صلة دم… وتفرقهم سنوات من تجاهل الحاجات العاطفية.
◾ التكنولوجيا… أم قناع التباعد؟
لا يمكن إنكار أن التكنولوجيا ساعدت البشر في التواصل، لكنها ساهمت في خلق نوع جديد من الانفصال داخل البيوت. هاتف ذكي لكل فرد، وجهاز لوحي لكل طفل، وشاشة تلفاز تشاهد بصمت دون تعليق. أصبحنا نفضل الدردشة مع غرباء على الإنصات لمن يشاركوننا الحياة.
الغربة لم تعد تحتاج سفراً… فقد أصبح الأب والابن جارين لا يتحدثان، والزوج والزوجة شريكين في فندق، والأشقاء مجرد متابعين لحسابات بعضهم البعض على “السوشيال ميديا”.
◾ حين ينكسر “الدفء”… يتجمد كل شيء
الأسرة ليست جدراناً، بل علاقة. وعندما تنكسر هذه العلاقة، تفقد الحياة دفئها. تنمو العقد النفسية، وتتشكل شخصيات خائفة، أو عنيفة، أو عاجزة عن الحب لاحقًا. الطفل الذي لا يسمع “أنا أحبك” من والديه، يصبح شاباً لا يعرف كيف يعبر. والمرأة التي لا تجد من يستمع لها، تتعلم الصمت المؤلم. والرجل الذي لا يُرى، يتحول إلى ظل لا يطلب شيئاً.
◾ إلى متى نبقى غرباء؟
ربما لا نحتاج إلى معجزات لإعادة بناء دفء الأسرة. ربما كل ما نحتاجه هو كلمة طيبة على المائدة، سؤال صادق في المساء، حضن غير مشروط، ووقت لا يقطعه الهاتف.
فالغربة الحقيقية ليست في الابتعاد عن الأوطان… بل في أن تعيش داخل بيتك، محاطاً بأهلك، وتشعر أنك لا تنتمي.
“غرباء في منازلهم” ليست قصة عابرة، بل جرح اجتماعي يزداد اتساعًا. وربما السؤال الذي علينا أن نطرحه اليوم هو: هل نعيش مع من نحب، أم فقط بجانبهم؟