في عالم ديناميكي تتغير ملامحه جرّاء التغير المناخي والذكاء الاصطناعي والأزمات الصحية وغيرها من العوامل، يشهد مفهوم “العمل” تحولاً جذرياً، حيث تغير هذه العوامل طرائق التواصل واكتساب المعرفة والقيام بالأنشطة.
ويُعد التكامل بين البشر والآلات مصيراً لا مفر منه، لا سيما في القطاعات التي تؤثر بها التكنولوجيا بشدّة. وتشكل القدرة على التأقلم مع المهارات الجديدة خطوةً أساسيةً في سوق العمل التنافسي. وتشهد ديناميكيات العمل تطوراً بالتزامن مع ظهور مناطق تصنيع جديدة ورواج خيار العمل عن بُعد بدلاً من البيئة المكتبية التقليدية. ويخطّ التركيز المتزايد على النمو المستدام ملامح جديدة لسياسات إدارة الموارد البشرية. وفي هذا المشهد، يتعين على الحكومات والمؤسسات أن تتصدر مساعي تصوُّر وتنفيذ استراتيجيات جديدة تتناغم مع هذه التغيرات، للارتقاء بالمواهب البشرية في العصر الرقمي.
يترتب علينا أن نطوي نماذج الأفكار المسبقة وحتى البديهيات أو “المسلمات” المتعلقة بالعمل. وهنا يبرز دور اعتماد منهجية تقدمية تلبي الاحتياجات المتطورة وتستفيد من قوة التكنولوجيا لدفع عجلة النمو. ويقوم هذا التحول على ثلاث ركائز لا غنى عنها، هي: أولاً، تحديد المهارات المطلوبة في المستقبل، وثانياً، إعادة تعريف الإنتاجية والطريقة التي ننظر بها إلى العمل – خصوصاً في ضوء موضوع الاستدامة، وأخيراً، إعادة تصميم أماكن العمل التقليدية والبيئات الجديدة لزيادة مرونتها وكفاءتها إلى أكبر حدّ ممكن.
الركيزة الأولى: إعادة تشكيل العمل من خلال النماذج والمهارات المستقبلية
مع تغير أساليب العمل، يجب على المؤسسات الانتقال من منظور المسارات الوظيفية التقليدية إلى منظور مجموعات المواهب، مع التركيز على كفاءة الموظفين ومهاراتهم. ويجب على الأشخاص في المناصب القيادية اعتماد أساليب جديدة متوافقة مع قوى العمل.
ومن التوجهات الرئيسية الرائجة في هذا المجال اقتصاد الوظائف المؤقتة، حيث يختار عدد متنامٍ من الأشخاص وظائف مرنة ومؤقتة عوضاً عن النموذج التقليدي للعمل. ويُعزى انتشار هذا التوجه إلى ظهور المتاجر على الإنترنت، التي تجمع بين متعاقدين مستقلين يملكون مهارات معينة ومستهلكين يحتاجون إلى هذه المهارات. ويجب على المؤسسات التي تمرّ بهذا التحول أن تتسم بالرشاقة والمرونة. كما يجب إعادة النظر في التسلسل الهرمي التقليدي للعمل، والتركيز على الكفاءات والقدرات الأساسية بدلاً من المؤهلات الاعتيادية، حيث ستكون المرونة في توظيف المواهب والقدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة جانبان أساسيان للاستفادة من مجموعة المواهب الجديدة.
ومع استمرار التأثير الكبير للتقنيات الجديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، على القطاعات، تتنامى الحاجة إلى تطوير المهارات، وهو ما يتطلب تحولاً في نظرة المؤسسات نحو التدريب والتطوير. ووفقاً لدراسة أجراها المنتدى الاقتصادي العالمي، فإن أكثر من أربع من كل عشرة وظائف ستكون مؤتمتة بحلول عام 2027. ويجب على المؤسسات التقدمية ضمان تدريب الموظفين على التكيف مع المهارات والتقنيات الجديدة واعتماد منهجية التعلم والتطور باستمرار. إن اكتساب المهارات الفنية الجديدة ليس كافياً بحد ذاته، حيث تحافظ المهارات البشرية على أهميتها بصفتها عاملاً حاسماً للتميز. وسيتطلب عالم المستقبل مزيجاً من المهارات الفنية والبشرية، مثل الإبداع والمرونة، لتجاوز التحديات المفاجئة في بيئات العمل الديناميكية.
ويكمن سر دمج هذه التغييرات في قيادة تتسم بالوضوح والكفاءة والشمولية. ويبتعد هذا النموذج عن النُّهُج التقليدية الهرمية، ويرحّب بأساليب تتمحور حول العنصر البشري والعمل الجماعي والتعاون، مما يؤدي إلى مستويات تقدم ورضا تتجاوز ما تستطيع المؤسسات التقليدية تحقيقه. وتتطلب المناصب القيادية في عصرنا الذكاء في التواصل، والقدرة على التأقلم، والأهم من ذلك التحلي بالأصالة.
الركيزة الثانية: تمهيد الطريق أمام قوى عمل جديدة
تعتمد الركيزة الثانية لهذا التحول على تطوير الإنتاجية من خلال تحويل القوى العاملة، ودمج الأدوات الرقمية، واستخدام عملية صنع القرار القائمة على البيانات، وفهم الأداء بطريقة جديدة.
تسهم الأتمتة والذكاء الاصطناعي في تقريب المسافات بين البشر والآلة وإحداث تغيير جذري في طريقة عمل الموظفين، وتعزيز إمكاناتهم. وتتوقع 90% من المؤسسات إنجاز العمل باستخدام الأتمتة الرقمية (الروبوتات) بحلول عام 2025، مقابل 10% فقط في عام 2022، بحسب Executive Networks. سيؤدي الجمع بين الخبرة البشرية والابتكار التقني الى مشهد مهني جديد يعزز الإنتاجية والكفاءة من خلال أنظمة مخصصة وسهلة الاستخدام.
وتتضمن عملية اتخاذ القرارات التي تستند إلى البيانات تنفيذ خيارات استراتيجية وإجراء تحسينات بالاعتماد على تحليل المعلومات وتفسيرها. كما تزود المؤسسات بتحليلات قيّمة حول عملياتها. وسيؤدي دمج التحليلات إلى تعزيز الإنتاجية وجودة النتائج والكفاءة. وللاستفادة من قوة عملية اتخاذ القرارات المستندة إلى البيانات، يجب على المؤسسات دعم ثقافة قادرة على دمج البيانات والأدوات المتقدمة، واعتماد المنهجية الصحيحة لتجاوز الشكوك المحتملة.
يؤثر اعتمادنا لكل هذه التغييرات على نظرتنا وفهمنا لموضوع “الأداء”، حيث تبتعد المؤسسات عن التفكير التقليدي الذي يركز على أداء مهام محددة، لتتبنى مفهوماً أوسع لأداء العمل يشمل ديناميكيات العمل ودمج الأدوات الجديدة، مما يؤدي إلى التحول نحو التركيز على النتائج بصفتها المعيار الأساسي. ومع أنه من السهل نسبياً قياس الأداء في بعض الوظائف، إلا أنه قد يشكل تحدياً بالنسبة للعاملين في العديد من المجالات. ويتعين على أصحاب العمل تقسيم الأداء إلى أجزاء أصغر حتى يتمكنوا من تحليل إنتاجية الموظفين بفاعلية. ولا يمكن الاتفاق حول تعريف واحد للأداء، لذا يجب على المؤسسات الابتعاد عن الأفكار المسبقة عنه ووضع مقاييس ديناميكية خاصة به.
الركيزة الثالثة: إنشاء بيئات تدعم ازدهار المواهب
تتمحور الركيزة الأخيرة في مسار التحول حول جمع كل الأجزاء مع بعضها من خلال تمكين نجاح الموظفين، عبر ابتكار بيئات جديدة يمكن للمواهب الازدهار فيها.
ونتيجةً للتغيرات في مفاهيم القيود الجغرافية، تعمل الشركات على تغيير استراتيجياتها لإنشاء المزيد من مؤسسات الخدمات المشتركة (SSOs). وتعمل هذه المؤسسات على توحيد العمليات الداخلية وتعزيز دعم الفرق من موقع مركزي واحد، مما يؤدي إلى رفع الكفاءة وخفض التكاليف. كما تعمل كبنية تحتية أساسية لتطبيق التقنيات المتطورة في الشركات. ومما يعزز هذه الفوائد ارتفاع الإقبال على نموذج خدمات الأعمال العالمية الذي يوفر أنشطة داعمة من خلال تضمين نماذج متعددة. ولتحقيق أقصى استفادة من هذه التطورات، يتعين على المؤسسات الاستثمار في بنية تحتية رقمية قوية مثل الحوسبة السحابية.
وأشار إحدى التقارير إلى أن 80% من المؤسسات تواجه تحديات في إيجاد الكفاءات التي تحتاجها، لذا من المهم إنشاء علامة تجارية راسخة، لا تقتصر على الشعار البصري والعبارات الجذابة، بل تستند أيضاً إلى رؤية وقيم وجهود ملموسة لتحقيق الأفكار إلى حقيقة. وتركز الشركات أيضاً على تحسين مقترح قيمتها لجذب المواهب والاحتفاظ بها، خاصة مع تزايد اعتماد القوى العاملة على جيل الألفية والجيل زد، الذين يفضلون أسلوب حياة متوازن ومرن. وتشمل مجالات التحسين الرئيسية الأخرى مواءمة الثقافة الداخلية للشركة مع قيم الموظفين في تشكيل المستقبل، فضلاً عن تعزيز التعويضات المالية.
ويتمثل أحد التوجهات الجديدة في ظهور المساحات الهجينة، وهي حالة تدمج فيها تكنولوجيا العمل عن بعد مع البيئات المكتبية التقليدية، مما يؤدي إلى إنشاء بيئات عمل مترابطة تعزز الكفاءة والتعاون، وتلبي في الوقت نفسه احتياجات الموظفين للمرونة والتوازن بين العمل والحياة. ولن يكون للتصميمات التقليدية حضوراً في أماكن العمل المستقبلية، التي ستشكل بيئات تعزز التعاون والأُلفة وروح المجتمع. ومن الجدير بالذكر أن بناء هذه المساحات يجب أن يتم بأساليب مستدامة أيضاً.
أفكار ختامية
مع تقدم التكنولوجيا والتطور السريع للمعايير العالمية، بات العمل على أعتاب تحول جذري. ولا شك أن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية تسهم في تحسين الإنتاجية والكفاءة، إلا أنه يجب تنفيذها بنهج يركز على العنصر البشري. ولا بد من إنشاء بيئات عمل مبتكرة واعتماد سياسات وممارسات جديدة لإطلاق العنان للإمكانات البشرية. ويحمل مستقبل العمل تحديات غير مسبوقة، إلا أنه يزخر بفرص لا حدود لها.