هل هويتنا المهنية قدر حتمي؟ هل نحن سجناء أول منصب شغلناه، أو رهائن لخطأ استراتيجي ارتكبناه في مشروع سابق؟ في عالم الأعمال سريع التغير، حيث المهارات تتقادم والأسواق تتبدل والتكنولوجيا تتسارع، يبرز هذا السؤال كعقبة أساسية أمام كل من يسعى للارتقاء والنمو. الكثيرون يشعرون بأنهم عالقون في قالب صُنع لهم في بداية مسيرتهم، وأن بصمات الماضي المهني هي حبر دائم يصعب محوه. ولكن، هل يمكن للمرء أن يعيد اختراع نفسه مهنياً؟ هل يمكنه أن يولد من جديد في مساره الوظيفي؟ الإجابة تكمن في استعارة من الرواية الأدبية الخالدة (البؤساء) للكاتب فيكتور هوغو هذه الرواية التي مازالت تؤثر فيني منذ طفولتي بدايةً مسلسل كرتون كان اسمه (قصص عالمية) وقراءتي للرواية في شبابي حتى اصدار الفلم من عام ١٩٩٨.
قصة “جان فالجان- بطل الرواية”، تقدم لنا نموذجاً متكاملاً ليس فقط للتحول الإنساني، بل لإعادة بناء الهوية المهنية من الصفر.
لفهم عمق هذا التحول، علينا أولاً أن نرى “جان فالجان” الموظف. تخيله موظفاً مبتدئاً ارتكب خطأً فادحاً في مشروع كبير، أو خريجاً جديداً من جامعة غير مرموقة، أو ربما موظفاً قادماً من شركة أعلنت إفلاسها. جريمته لم تكن سرقة رغيف خبز، بل كانت “نقص الخبرة”، “فشل مشروع”، أو “خلفية أكاديمية غير مناسبة”. أما سجنه الذي امتد لسنوات، فيتمثل في الركود الوظيفي والعمل في مهام هامشية لا تعكس قدراته الحقيقية. عندما يقرر أخيراً البحث عن فرصة أفضل، يجد نفسه حاملاً لـ”جواز سفر أصفر”: سيرته الذاتية التي تصرخ بماضيه. كل مدير توظيف يرى “فشل المشروع”، وكل شركة ترى “الخلفية المتواضعة”. يُقابل بالرفض أو بعروض أقل من إمكانياته، ويُحاصر في هوية مهنية لم يخترها، هوية “الموظف غير الموثوق” أو “صاحب الإمكانيات المحدودة”. مع مرور الوقت، يبدأ هو نفسه في تصديق هذه العلامة التجارية التي فُرضت عليه، ويترسخ في قلبه شعور بالمرارة تجاه الشركات التي لم تمنحه فرصة، وشعور بالعجز عن تغيير واقعه.
في خضم هذا اليأس المهني، وفي لحظة تبدو فيها كل الأبواب موصدة، يحدث ما يغير كل شيء. يظهر في حياته “المطران ميريل”، والذي قد يكون في عالمنا مديراً حكيماً، أو مرشداً (Mentor) يؤمن بقدراته، أو حتى شركة تقرر تجاهل سيرته الذاتية والاستثمار في إمكانياته الكامنة. هذا المدير لا يرى الموظف الذي فشل، بل يرى الجوع في عينيه للنجاح والتطور. في اجتماع عمل، وبدلاً من توبيخه على خطأ، يمنحه مسؤولية مشروع جديد وحساس قائلاً: “أنا أثق بك لإنجاز هذا العمل”. هذه الثقة غير المتوقعة هي بمثابة “شمعدانات الأسقف الفضية”. إنها ليست مجرد فرصة عمل، بل هي رسالة تقول: “أنا أرى فيك ما لا تراه في نفسك، وأراهن على مستقبلك، لا على ماضيك”. هذه اللحظة تمثل صدمة إيجابية تحطم جدران الشك الذاتي، وتخلق دافعاً هائلاً وولاءً عميقاً، ورغبة عارمة في إثبات أن هذه الثقة كانت في محلها. المرشد هنا لا يمنحه وظيفة فحسب، بل “يشتري روحه المهنية” ويحررها من قيود الماضي ويهبها للنجاح.
التحول المهني، تماماً كالتحول الشخصي، ليس قراراً سحرياً، بل هو عملية بناء شاقة تتطلب وعياً وجهداً. بعد الحصول على هذه الفرصة الذهبية، يواجه الموظف صراعه الداخلي الأول ضد عاداته القديمة. قد يميل إلى المماطلة، أو تجنب المسؤوليات الصعبة، أو العودة إلى التفكير السلبي. هذه هي لحظة “سرقة قطعة النقد من الصبي الصغير”، حيث تظهر ردود أفعاله القديمة بشكل تلقائي، لكن وعيه الجديد يجعله يدرك الخطأ ويتخذ قراراً حاسماً بالتغيير. يبدأ بـ”تمزيق سيرته الذاتية القديمة” رمزياً، ليس بإخفاء المعلومات، بل بالبدء في كتابة قصة جديدة فوقها. ينكب على اكتساب المهارات التي تنقصه، فيسجل في الدورات التدريبية، ويقرأ الكتب المتخصصة، ويطلب المساعدة من زملائه. يصبح أول من يحضر وآخر من يغادر. يبادر بتقديم الحلول بدلاً من الشكوى من المشاكل. يتحول تدريجياً من موظف “منفذ” إلى “مبادر” ثم إلى “خبير”. هكذا يولد “مسيو مادلين” في عالم الشركات؛ الموظف الذي أصبح قائداً للفريق، المدير الذي يحقق أهدافه باستمرار، الزميل الذي يلجأ إليه الجميع لطلب المشورة. إنه يبني علامته التجارية الشخصية الجديدة ليس بالشعارات، بل بالإنجازات اليومية، والقيمة المضافة، والالتزام الأخلاقي.
لكن الماضي المهني له أشباحه أيضاً، وغالباً ما تتجسد في شخصية “المفتش جاڤير”. قد يكون “جاڤير” هذا مديراً قديماً لا يؤمن بقدرتك على التطور، أو زميلاً منافساً يحاول تذكير الجميع بأخطائك السابقة (“أتذكر عندما تسببت في فشل ذلك المشروع؟”). وقد يكون “جاڤير” أقرب مما نتصور، قد يكون ذلك الصوت الداخلي المزعج، “متلازمة المحتال” (Imposter Syndrome)، الذي يهمس في أذنك قائلاً: “أنت تخدعهم. سيكتشفون قريباً أنك لست كفؤاً كما تبدو”. هذا الصراع يصل إلى ذروته عندما تواجه تحدياً كبيراً يختبر مدى أصالة تحولك. هل ستعود إلى نمطك القديم تحت الضغط، أم ستثبت أن “مسيو مادلين” هي هويتك الحقيقية الآن؟
الاختبار الحقيقي للنزاهة، وللهوية المهنية الجديدة، يأتي في تلك اللحظات التي يتعين عليك فيها الاختيار بين ما هو سهل وما هو صحيح. تخيل أن مشروعاً كبيراً تقوده على وشك الفشل بسبب خطأ ارتكبته أنت في البداية ولم ينتبه له أحد. لديك خياران: أن تدع اللوم يقع على أحد صغار الموظفين، أو أن تلقي باللوم على الظروف الخارجية، وبذلك تحافظ على صورتك ومركزك. أو، يمكنك أن تقف أمام الإدارة العليا، تماماً كما وقف “فالجان” أمام المحكمة، وتعترف بالخطأ وتتحمل المسؤولية كاملة، حتى لو كان ذلك يعني المخاطرة بترقيتك أو حتى منصبك. اختيارك تحمل المسؤولية في هذا الموقف هو الدليل القاطع على تحولك. إنه يثبت أن هويتك الجديدة ليست مجرد قناع من النجاح السطحي، بل هي متجذرة في قيم أساسية جديدة كالنزاهة، والمسؤولية، والقيادة الحقيقية.
في النهاية، مسيرتك المهنية هي قصتك أنت. كلنا نبدأ وفي سجلنا ما يمكن اعتباره “ماضياً”؛ قد يكون وظيفة متواضعة، أو شهادة غير مناسبة للسوق، أو سلسلة من القرارات غير الموفقة. وكلنا سنواجه “جاڤير” بشكل أو بآخر. المفتاح يكمن في قدرتنا على التعرف على “المرشدين” الذين يؤمنون بنا، واقتناص “الفرص الثانية” التي تُتاح لنا، والقيام بالعمل الجاد لبناء هوية مهنية جديدة تقوم على القيمة المضافة والنزاهة. هويتك المهنية ليست ما كُتب في سيرتك الذاتية أمس، بل هي ما تثبته بأدائك وقيمك وأخلاقك اليوم. كن أنت “جان فالجان” في مسيرتك المهنية، واختر أن تكون أكبر من أي فشل سابق، وأعظم من أي منصب حالي.