عندما كنت صغيرة، كنت أصفّق بحماسة كلما استطاع جيري خداع توم. لا أعلم لماذا.. فقط بدا لي أن توم هو الشرير في الحكاية.
اليوم، وبعد سنوات من الضحك على ذات المشاهد، بدأت أتساءل:
هل توم فعلًا هو الشرير؟ أم أن هناك شيئًا ما في العدسة جعلنا نرى الحكاية بعيون غير محايدة؟
توم وجيري، الكرتون الذي يجعل الكبار قبل الصغار يتسمّرون أمام شاشة التلفاز وأصوات قهقهاتهم تملأ المكان، بسيط وخالٍ من التكلّف برسومات بدائية جدًا ودون أي نص محكي، يروي هذا الكرتون قصة ثلاثة كائنات أليفة في صراع أبدي على السيطرة، أو ربما البقاء (الفأر، والقط، والكلب) وعلى الرغم من وضوح موازين القوى الكونية بين هذه الكائنات في الحياة الواقعية، إلّا أن هذه الموازين معكوسة بالكامل في الكرتون، حيث يستطيع الفأر التغلّب على القط ويستطيع القط تحويل حياة الكلب الضخم إلى جحيم.
تعالوا نسترجع معًا، سرديّة القصة.
كان توم يحرس المنزل بينما جيري يسرق الطعام. لكن الكاميرا كانت دائماً في صف الفأر الصغير ذو الرموش الطويلة والعينين البريئتين. وقد بدا لنا، لربّما بسبب صورتنا المسبقة عن قدرة القط على هزيمة الفأر والتهامه بشراسة، أن جيري المسكين هو الضحيّة. فهو يحاول الحصول على لقمة عيشه لا أكثر فيتعرّض لخطر القتل من قبل القط الشرير الذي يسكن المنزل!
ولكن هل هذه هي السرديّة الحقيقية؟
توم في الواقع، قطٌ كسول، يريد النوم فقط بينما تحوّله صاحبة المنزل إلى قط حراسةٍ تمارس عليه أقسى أنواع العقوبات التي تبدأ بالتوبيخ والحرمان من الطعام والضرب بالمكنسة وتصل إلى الطرد من المنزل في البرد القارس. على صعيدٍ آخر، يتفنن جيري باستفزاز توم بداعي التسلية حتى عندما لا يكون جائعًا، هو فقط يراقب توم فيراهُ نائماً بسكون فلا يقاوم رغبة إغاظته بأغلظ الطرق بل ويستخدم الكلب الضخم وسيلةً لضربه وتخويفه كي يصل إلى مآربه.
ولكننا برغم كل ذلك، نتعاطف مع جيري لأنه يملك من الجاذبية ما يجعلنا نعتقد أنه الضحية وصاحب الحق. ونفعل الشيء نفسه مع الكثير من الشخصيات الشريرة في الأفلام نحبها رغم كل شرّها، فقط لأنها جذابة أو مختلفة. وهنا ندرك أننا أحياناً، لا نحبّ الأشخاص الطيبين، بل نميل إلى أولئك ذوي البأس والقوة القادرين على بسط سيطرتهم ذوي الكاريزما الجذابة (الكيوت).
فتخيّلوا أعزائي القراء وعزيزاتي القارئات، كم من مرة كبرنا ونحن نعتقد أن القوي هو الشرير، فقط لأنه كبير الحجم أو ذو ملامح غاضبة!
دعونا نواجه الحقيقة: في طفولتنا، لم يكن يهم من بدأ الشجار. طالما أن أحدهم أصغر، يركض، ويتلقى الضربات فهو بلا شك الضحية، وبالتالي هو الطيب.
وهنا تبدأ القصة الحقيقية، ليست قصة توم وجيري، بل قصة الانحياز التعاطفي التلقائي.
توضّح الأبحاث في علم النفس التنموي أن الأطفال يملكون ميلاً فطرياً للتعاطف مع من يبدو أضعف، حتى لو لم يكن على حق. هذه الظاهرة تُعرف بـ empathy bias أو الانحياز التعاطفي، وهي آلية تجعلنا ننحاز عاطفياً إلى الشخص المتألم، أو الصغير، أو من يُظهر مشاعر الحزن أو الخوف بشكل واضح.
في حالة جيري، الفأر يبدو صغيراً، مرناً، ذكياً، وذو تعابير وجه مضحكة، بينما توم ضخم، عنيف، وغالباً ما يُظهر الغضب والصراخ.
ببساطة: الكاميرا والسيناريو وعيوننا الصغيرة كلّها كانت تصرخ: جيري بريء!
لكن الأمر لا يتوقف هنا.
في خلفية هذه القصص، كانت تعمل ماكينة قوية اسمها: القوالب السردية الجاهزة. هذه القوالب لا تقدم لنا الشخصيات، بل تقدم لنا أحكاماً مبطّنة:
- الجميل = طيب.
- الضعيف = مظلوم.
- القوي أو الغاضب = شرير.
وهكذا، صرنا نربط الحق بالشكل، لا بالفعل.
صرنا نثق بمن يبتسم أكثر، ونشكك بمن لا يعرف التعبير عن مشاعره.
صرنا، ببساطة، نمارس تعاطفًا روائيًا (Narrative Empathy) لا عقلانياً، بل مبرمجاً وفق أدوار نمطية، لا وقائع حقيقية.
ومع الأسف، كثيرون منا حملوا هذه البوصلة الطفولية معنا إلى الكِبر، نحكم بها على الناس في العمل، وعلى المشاهير، وعلى من نحب ومن نكره. دون أن نلاحظ أن العدسة التي نُشاهد بها الشرير قديمة، مشوشة، ومصبوغة بلون تعاطف تعلمناه ونحن نضحك على فأر!
في الحياة، كما في الكرتون، لا يكفي أن تكون لطيفاً لتكون على حق، ولا أن تكون صاخباً لتُدان.
ربما علينا أن نعيد التفكير في زاوية الكاميرا التي نرى بها الآخرين.
وألا ننسى أبدًا أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال البسيط: من هو الشرير الحقيقي في القصة؟