لا أظن أن هناك من لم يصله خبر “ديب سيك” حتى الآن، وبالتالي لا داعي لتكرارا معلومات مثل قول الشركة التي انتجته أنه لم يكلفها سوى ما يقارب الستة ملايين دولار، أي أقل بالكثير من تكلفة تشات جي بي تي. أو أنه أكثر كفاءة من غيره من نماذج اللغة الكبيرة، أو أنه يتقاضى فلسات أقل بشكل ملموس من نموذج “أو 1” الخاص بشركة “أوبن أيه آي” مقابل استخدام الخيارات المدفوعة منه.
ولعل أهم الهزات الارتدادية التي تبعت زلزال إطلاق “ديب سيك” هو انبهار العالم بالعناوين التي اختارتها وسائل الإعلام وركزت فيها على مبلغ الستة ملايين دولار كتكلفة لإنشائه (أوردت الأخبار المختلفة أرقام أخرى مثل 5.6 مليون دولار و5 مليون دولار ربما بسبب الاختلاف على سعر صرف اليوان الصيني وقتها) مقابل مليارات الدولارات التي دفعتها الشركات الأمريكية مقابل أنظمة الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) التي تنتجها.
لكن ما لفت انتباهي أكثر أنني لم أجد أحدا يشير أن المصدر الوحيد لهذا الرقم كان الشركة صاحبة “ديب سيك” نفسها، ولم يخطر على بال أي وسيلة إعلام اضافة عبارة “ولم يتاح لنا تأكيد الخبر من مصادر مستقلة”، أو محاولة تحليل هذا الرقم، وبخاصة وإن هناك من يقول أن هذا المبلغ لم يكن سوى تكلفة المرحلة الأخيره من إعداده أو تدريبه. وطبعا هناك من حاول تحليل الموضوع من ناحية تقنية لإثبات أن هناك مبالغات في إدعاءات “ديب سيك”، أو أنها في الواقع استخدمت ما يوصف بعملية “تقطير” Distillation لاستغلال نماذج اللغة الكبيرة كالتي انتجتها “أوبن إيه آي” أو “ميتا” وغيرها. هناك أيضا من قال أنه لو حسبنا تكلفة تدريب ساعة واحدة من هذا النظام بالحجم الذي وصف لا بد وأن يحتاج إلى أكثر بكثير من 5.6 مليون دولار. هذا عدا عن تحاليل أخرى لما حصل لا يتسع المجال لذكرها، وبخاصة وأنها ستسمر بالظهور لفترة.
المهم أن النتيجة كانت صدمات في أسواق المال العالمية امتدت في ذلك اليوم من اليابان في أقصى الشرق وحتى نيويورك مرورا بالبورصة الألمانية، لم يؤثر على شركات التقنية المعنية فحسب بل وامتد ذلك إلى شركات الطاقة التي توصف بالنظيفة وبخاصة المتخصصة بالطاقة النووية، التي بدأت بالظهور لتغطية شراهة الذكاء الاصطناعي الضخمة لاستهلاك الطاقة الكهربائية.
نقاط تستحق الانتباه:
- أول ما خطر على بال المستثمرين حكومات وأفرادا هو شعورهم بعدم صدق ما ادعته الشركات الأمريكية الكبرى من أن تكلفة انتاج نماذج الذكاء الاصطناعي التوليدي كانت تحتاج إلى مليارات الدولارات لبناء مراكز البيانات وتدريب الذكاء الاصطناعي، أو لتسديد فواتير الكهرباء والماء الضخمة التي تتراكم عند كل عملية تدريب أو معالجة لأوامر وتوجيهات الذكاء الاصطناعي. وهذا عدا عن دفع رواتب خيالية للخبراء (المحظوظين) التي لم تنفك الشركات عن سرقتهم من منافسيها. وكأني بلسان حال المستثمرين يقول طالما استطاعت الصين أن تقوم بكل ذلك ببضعة ملايين لماذا طلبتم منا مليارات؟ كيف ولماذا؟
وهناك من تساءل “حتى أنت يا “إنفيديا”؟ هل كان من المعقول أن تبيعينا القطعة الواحدة من H100 مقابل 40 ألف دولار، وربما أكثر في السوق السوداء، على أساس أنها الشريحة الوحيدة التي ستجعلنا نتجنب عار التخلف عن ركب الذكاء الاصطناعي، ولذلك يجب أن نبتاع منها المئات أو حتى مئات الآلاف منها لتحقيق ذلك حتى ولو كنا لا نعرف بالضبط كيف سنطبق هذا الذكاء في أعمالنا أو حياتنا بشكل عام؟؟
“إنفيديا” من جانبها استغلت ما جرى وصرحت بأنها سعيدة بأن شريحة H800 الأضعف والأرخص سعرا والتي قيل أن “ديب سيك” قد استخدمتها لتدريب نظامها قد أثبتت مدى قوة منتجاتها. وهذا يعني طبعا أنها ستكون جاهزة للتركيز على انتاج المزيد من شرائحها الأضعف والتي قد تلجأ دول أخرى في العالم لاقتنائها للحاق بركب التكنولوجيا وبتكلفة أقل.
- ومع حقيقة انه نظام مفتوح، فهذا يعني أن قدرات الذكاء الاصطناعي أصبحت في متناول الجميع. مما يعني توقع ظهور العديد من الابداعات الجديدة بعد أن تتاح للعقول المنتشرة في جميع أنحاء العالم الفرصة للخروج بأفكار جديدة قد تكون غير متوقعة تستخدم الذكاء الاصطناعي.
- لكن لا أعتقد أن الجميع هنا سيعني فقط الدول والشركات ذات الميزانيات المحدودة، بل سيشمل ذلك الجهات ذات النشاطات الإجرامية أو الهاكرز. وأظن أن الكثيرين منا سمع منذ الأيام الأولى لانتشار “تشات جي بي تي” كيف انتشرت في الإنترنت العميقة والسوداء دورات تدريبية تشرح للهاكرز الطرق الأمثل لاستخدام الذكاء الاصطناعي في تحسين “جودة” أعمالهم.
- من المثير للاهتمام قيام الشركات العاملة بالذكاء الاصطناعي بتوفير الوصول إلى “ديب سيك آر1” لعملائها، كشركة “بيربلكستي” وشركة مايكروسوفت نفسها التي وفرته من خلال “آزور أو إيجور” (Azure AI Foundry) و”غيتهب” (GitHub)، مع تركيزهما على أن البيانات التي تستخدم في هذه الحالة لن تمر من خلال الصين، بل من خلال مراكز بيانات أمريكية أو أوروبية.
- ومن اللطيف ملاحظة أن كلا من سام ألتمان ومارك زوكربيج قد أثنيا على “ديب سيك” واعترفا بأنه منافس قوي وأنهما سيعملان على دراسته بدقة وتقديم رد مناسب عليه. ومع أن البعض مثل الرئيسين التنفيذيين لكل من ميتا ومايكروسوفت قد دافعا بقوة عن موضوع المصاريف الكبيرة لبناء وتطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي، إلا أنه لا يوجد عندي أدنى شك من أننا سنسمع قريبا عن حلول جديدة من الشركات الأمريكية لخفض هذه التكاليف بصورة كبيرة.
- لم تنته الحكاية هنا، ولا أظن أنها ستنتهي في المستقبل المنظور، فهناك شركات صينية أخرى تعد العدة لإعلانات جديدة في المجال نفسه، وسنسمع عن استراتيجيات جديدة من شركات الذكاء الاصطناعي الكبرى والصغرى. كما سيبحث بعض المنافسين في الولايات المتحدة عن ماء عكر ليصطادوا فيه، فمنهم من سيركز على ثغرات في “ديب سيك” تسببت في تسريب كميات كبيرة من البيانات السرية، وهناك من سيركز على موضوع أنه لا يحترم حرية التعبير (على أساس أنهم يقومون بذلك أصلا)، بالإضافة إلى طرح موضوع حظر استخدام الأنظمة مفتوحة المصدر بذريعة حماية الأمن القومي.
لننتظر ونرى ماذا سيحدث.
https://www.linkedin.com/in/waleedalasfar/
#DeepSeek #AI #GenerativeAI #Innovation #Creativity #OpenAI #Microsoft #Anthropic #Perplexity #Markets #Future #Humanintelligence #H