غربةُ الحربِ

لم نحلم يوما بالخروج من بلادنا ، ولكن ارادة الله فوق اختياراتنا ودائما ما كانت هي أخيرُ الخيرِ ، نطمئن حين نتذكر من اغترب قبلنا ، منهم من قضى شهورا ، وآخرُ قد أتم ربع قرن ، اذا فهل سيكون محتملاً؟ فراق أرض المحنة والكرم لمدة؟ طالما سهُلت عليهم فستهون علينا أيضا..

خرجنا من بلادنا قاصدين للعلمِ والعلوِّ ، مسنودين بقولهِ صلى الله عليه وسلم “من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا الى الجنة”

خرجنا على امل ان نكمل جزءًا من دراستنا وان نعاود زيارة الوطن بين الحين والآخر وألا نقطعه لنصف عام او ما دون ذلك ولكن!!

في صبيحة الخامس عشر من ابريل تحوّل مسار حياتنا مئة وثمانين درجة ، وفجأة قُطع الوصال بيننا وبين اهلنا وذكرياتنا وبلادنا في لحظة..

ولسوءِ حظنا ان اول ما دُمِّر في ذلك اليوم بواسطة التمرد كان مطار الخرطوم الدولي(الوصلة بيننا وبين السودان)..

ما هذا يا رفاق؟ أحُبسنا؟ اجئنا هنا لنفترق عن اهلنا نهائيا؟

هنا بدأ ادمان الهاتف ، لا للهوٍ فيه وانما لمتابعة مستجدات البلاد والحرب والاطمئنان على الاهل ، هنا بدأ التوتر المزمن ، رحلات التنقل بين اخبارِ الفيسبوك الى اخبار الانستقرام ، أيُّهم صحيح ومن معه الحق؟

تحوّل سيناريو العودة الى الوطن الى حلمٍ فجأةً ، فبعدما كان مجرد طائرة تمتطيها لساعتين فتأخذك الى حياتك العادية اصبح الامر صعبا ، اصعب مما تتخيل ويكاد ان يكون مستحيلا!!

يهرع كلٌّ منا الى هاتفه على رأس كل ساعةٍ مرة او مرتينِ ، من هول ما يراهُ ويسمعهُ في الاخبار..

جاء العيدُ ، فبدلاً من سماع صوت التكبيرات ها انت تسمع صوت الرصاصِ ، وصوتُ القذائف يغنيك عن صوت (الطِلَقْ””مفرقعات العيد””) فكلاهما ذو صوت مدوّي ، ولكن ليس لكليهما ذات الاثر النفسي..

لم نفهم شيئا للعيدِ غيرَ تعظيم شعائر الله ، فلم يكن اسوأ عيدٍ لبعدنا عن اهلنا فقط بل لما يحدث معهم من اهوال ونحن لا نملك لهم غيرَ الدعاءِ

مرّتِ الايام ثم الشهورُ ، وها قد خرج اهلي من العاصمة اخيرا !!

لربما الامرُ محزن؟ ان يتركوا حياتهم وكل ما اقتنوه خلفهم !! ، لكن ولله الحمد انهم سليمون وهذا الاهمّ ، لم تُكتب عليهم حياة النزوح حينها ، فقد كانت لنا مساكن في اماكن آمنةٍ ، فذهبوا واستقروا واستقرّت نفوسنا لاستقرارهم (ليس القصد بالاماكن او الوجهات فلكلِّ مغترب حرب مثلي قصة مشابهة باختلاف المسميات فقط)

، ظلّت الحياة بهيَّةً الى صباح الخامس عشر من ديسمبر من ذات العام ، فهذا التاريخ يمثل بداية الحرب مرة اخرى ، في ود مدني والتي نزح اليها اهلي وجُلُّ اهل الخرطومِ بحكم انها اقرب مدينة للعاصمة ، بدأت حركة النزوح منذ بداية الاشتباكات ، فمواطنو الخرطوم لا يريدون تكرارَ ما ذاقوه في العاصمة ولا في احلامهم حتى!! ، هذه المرة الامرُ مختلف ، المليشيا تتوعد المواطنين بعد وقوفهم مع البلاد والجيش اللهم سلّم اللهم سلّم..

في غضون يومين ، اذا بالاشتباكات تتجدد على مشارف ود مدني! ، فجأة رأيت فيديوهات للمليشيا من شارع النيل بود مدني والذي يبعد حوالي خمس دقائق عن بيت اهلي هنالك.. ألك ان تتخيل ما شعرت به حينها!!

أسرعت الى مراسلتهم فإذا بي ارى تغريدات منهم كلهم بلا استثناء وكان كل محتواها ( يا ناس العفو والعافية ، يا رب سلم ، الله ناصرنا ولا ناصر لهم ، دعواتكم يا جماعة ، اللهم ارحمنا برحمتك)

حاولت الاتصال ومراسلة كل شخصٍ اعرفه ولكن لا احد يجيب وكأن حالة من الصدمة قد لازمتهم جميعا في شتى بقاعهم من تلك المدينة!!

اجابني حينها احد اعزّ اصدقائي وليته لم يجبني ، اجابني قائلا يا عمر (عليك الله اعفي لي صوت الضرب دا قاعد يقرب شديد وحاليا وصلو الشارع الجمبنا وكل بيت بتسمع بكسرو بابو وناسو بكوركو العفو والعافية) وفجأةً انقطع الانترنت في تلك اللحظة عنهم جميعا..

عمّ الصمت ، كنت وحدي حينها في البيت وجميع من اعرفهم في القاهرة عاصمة مصر ، لم اكن اسمع حينها سوى صوتِ المِروحة ، لا اتذكر ان النوم قد زارني في ذلك اليوم ولا اتذكر ان فمي قد ذاق شيئا من الطعام او الشراب حتى طلوع الفجر!

مرّت ايام طوالٌ عليَّ قصارٌ على العدّاد لم اعرف للحياة طعما فيها!! ، لم اكن اجيب على المكالمات في تلك الفترة خوفا من تلقِّي خبر سيئٍ توقّعه القلبُ؟

فكما ان من عاش في الحرب قد عاش حياة صعبة لا يستوعبها أحد ، فأيضا من عاش في الخارج وله أهل في مناطق النزاع او سيطرة المليشيا قد عانى من نفس الزعزعة بذات القدر ولكن لم يكن معه من يهوّن عليه او من يحس بإحساسه ، ودائما ما يُهاجم( ياخ انت ما عشت الحرب انت قاعد برة هههه)

والله يعلم ما عانيناهُ حينها واثر ذلك علينا!!

فالغربة بالاصل صعبة فما بالك بغربة الحرب؟ فمن كان يعول اسرة صار يعول ثلاثة ، ومن كان مدعوما لاكمال دراسته فقد كل مصادر دعمه وعودته في لحظة ، وعلى ذكر الطمأنينة فقدْ فقدها الجميع منهم.. ،

فنسأل الله ان يكمل فرحة النصر بتحرر كل مدن دارفور

“ربّي اجعل هذا البلد آمنا”

#غربةُ الحربِ

المعلومات المقدمة حول هذا الموضوع ليست بديلاً عن المشورة المهنية ، ويجب عليك استشارة أحد المتخصصين المؤهلين للحصول على مشورة محددة تتناسب مع وضعك. بينما نسعى جاهدين لضمان دقة المعلومات المقدمة وحداثتها ، فإننا لا نقدم أي ضمانات أو إقرارات من أي نوع ، صريحة أو ضمنية ، حول اكتمال أو دقة أو موثوقية أو ملاءمة أو توفر المعلومات أو المنتجات أو الخدمات أو ما يتعلق بها الرسومات الواردة لأي غرض من الأغراض. أي اعتماد تضعه على هذه المعلومات يكون على مسؤوليتك الخاصة. لا يمكن أن نتحمل المسؤولية عن أي عواقب قد تنجم عن استخدام هذه المعلومات. يُنصح دائمًا بالحصول على إرشادات من محترف مؤهل.