من وهم الربح إلى حقيقة النقد

من وهم الربح إلى حقيقة النقد: العقد الجديد بين الرئيس المالي والرئيس التنفيذي

 

مقدمة: عندما يخدعك الميزان

في المشهد الاقتصادي المعاصر، الذي يتسم بالتقلبات السريعة والمنافسة الشرسة، يواجه كل من الرئيس التنفيذي (CEO) والمدير المالي (CFO) تحدياً وجودياً: هل الأرباح التي نعلن عنها حقيقية وقابلة للاستدامة؟

قد تبدو الأرقام في “قائمة الدخل” (Income Statement) مبهرة، وقد تتباهى الشركات بتحقيق نمو مزدوج في الأرباح المحاسبية. لكن الحقيقة المرة التي تتجاهلها الإدارة غالباً، هي أن 60% من التقارير المالية تحتوي على أخطاء حاسمة، والأهم من ذلك: الربح المحاسبي هو رأي، بينما التدفق النقدي هو الحقيقة الوحيدة التي تضمن بقاء الشركة.

إن الخلط بين هذين المقياسين هو السبب الجذري وراء ظاهرة “النمو السريع والإفلاس السريع”. لقد رأينا هذا السيناريو يتكرر مراراً في منطقتنا، خاصة مع الشركات الناشئة وشركات التجارة الإلكترونية التي تتبنى مفهوم “النمو بأي ثمن”؛ حيث تتضاعف إيراداتها المعلنة وتزداد قاعدة عملائها، لكن استثماراتها الهائلة في الاستحواذ على العملاء أو في البنية التحتية، تجعلها تحرق النقد بمعدلات تفوق قدرتها على التحصيل، لتجد نفسها على شفا الانهيار رغم الأرباح المعلنة. هذا يستدعي إعادة تعريف لدور المدير المالي وشراكته الاستراتيجية مع الرئيس التنفيذي.

أزمة الوضوح: لماذا يفشل التحليل المالي؟

التحليل المالي يفشل، ليس بالضرورة بسبب نقص في الكفاءة، بل بسبب نقاط ضعف هيكلية تتلخص في الآتي:

  • وهم “مبدأ الاستحقاق”: يسجل المحاسبون الإيرادات بمجرد إبرام الصفقة وليس عند استلام النقد، مما يخلق فجوة زمنية خطيرة. قد تبيع الشركة بملايين وتعلن عن أرباح هائلة، لكن خزائنها فارغة وتكافح لسداد فواتيرها، لأن معظم مبيعاتها “ديون على العملاء” (Account Receivables).
  • هيمنة البنود غير النقدية: بنود مثل الاستهلاك والإطفاء تقلل الربح المحاسبي دون أن تستهلك نقداً فعلياً، مما يشوش على الصورة الحقيقية للسيولة.
  • غياب الاتصال الاستراتيجي: يتم إعداد التقارير للمتطلبات التنظيمية والامتثال، وليس للإجابة على سؤال الرئيس التنفيذي الأساسي: “ما هو المشروع الذي يجب أن نستثمر فيه غداً ليعود علينا بأعلى تدفق نقدي؟”

الأعمدة الثلاثة لعقلية التدفق النقدي

على المدير المالي أن يعيد تشكيل مسار الشركة بالتركيز على ثلاثة مقاييس نقدية لا تقبل الجدل:

1. التدفق النقدي التشغيلي: محرك البقاء

يجب أن يكون هذا هو المقياس الأول الذي ينظر إليه الرئيس التنفيذي. إنه يمثل النقد الفعلي الذي يولده النشاط الأساسي للشركة بعد دفع جميع التكاليف التشغيلية.

الرسالة للقائد: إذا كان التدفق النقدي التشغيلي سلبياً (أو ينمو ببطء شديد)، فإن نموذج عملك لا يمكنه تمويل نفسه بنفسه. أنت تعتمد على “التنفس الصناعي” من التمويل الخارجي، مهما كانت أرباحك المحاسبية.

2. كفاءة تخصيص رأس المال (Capital Allocation)

هنا يتقاطع الفن المالي مع الاستراتيجية. مهمة المدير المالي هي التأكد من أن كل درهم يتم استثماره يُعاد استثماره في مشاريع تحقق عائداً نقدياً يفوق “تكلفة رأس المال” للشركة.

الدرس من بافيت: لا يهم كم تربح الشركة، بل الأهم كيف تُنفِق أرباحها. هل تعيد الإدارة استثمار الأموال في مشاريع ذات عائد مرتفع، أم في “بناء إمبراطورية شخصية” لا تولد نقداً حقيقياً؟ المقياس الذهبي: يجب أن يكون العائد على رأس المال المستثمر (ROIC) أعلى من تكلفة رأس المال (WACC). إذا لم يكن كذلك، فإن الشركة تهدر أموال المساهمين.

3. انضباط رأس المال العامل (Working Capital Discipline)

النمو السريع غالبًا ما يقتل التدفق النقدي عبر حبس النقد في دورة رأس المال العامل. وهذا شائع جداً في أسواقنا:

  • النموذج الإقليمي: خذ على سبيل المثال شركات المقاولات والخدمات الهندسية: قد تُنهي شركة مشروعاً ضخماً وتسجل إيرادات بملايين الريالات، لكنها تضطر للانتظار 180 يوماً أو أكثر لتحصيل مستحقاتها الكبيرة (الحسابات المدينة). خلال هذه الفترة، تكون الشركة قد دفعت رواتب الموظفين واشترت مواد جديدة للمشاريع القادمة، مما يجفف سيولتها ويجبرها على الاقتراض بفائدة عالية لتغطية الفجوة، حتى لو كانت “مربحة جداً” على الورق.
  • الحل: يجب أن يكون الهدف هو تحصيل مستحقات الشركة بأسرع ما يمكن، وإدارة المخزون بصرامة لتجنب تجميد كميات كبيرة من النقد في مستودعات.

العقد الجديد بين CEO و CFO

لم يعد دور المدير المالي مقتصراً على إغلاق الدفاتر. لقد تحول إلى ضابط النزاهة المالية (Integrity Officer) والشريك الاستراتيجي الذي يوفر “الرؤية المستقبلية” للرئيس التنفيذي.

على الرئيس التنفيذي أن يغير سؤاله من “كم ربحنا هذا الربع؟” إلى “ما هي كمية النقد التي ولّدناها، وأين استثمرناها؟”

الشركات الرائدة في المنطقة التي تتبنى هذا التحول، وتجعل من “ثقافة النقد” مبدأً أعلى من “ثقافة الربح المحاسبي”، هي وحدها القادرة على تجاوز فترات عدم اليقين وتحويل الأرباح المعلنة إلى ثروة حقيقية ومستدامة للمساهمين.

no
no

لقد ساعد الذكاء الاصطناعي في كتابة هذا المقال

اختار المشارك أن يبقى مجهولًا.

المعلومات المقدمة حول هذا الموضوع ليست بديلاً عن المشورة المهنية ، ويجب عليك استشارة أحد المتخصصين المؤهلين للحصول على مشورة محددة تتناسب مع وضعك. بينما نسعى جاهدين لضمان دقة المعلومات المقدمة وحداثتها ، فإننا لا نقدم أي ضمانات أو إقرارات من أي نوع ، صريحة أو ضمنية ، حول اكتمال أو دقة أو موثوقية أو ملاءمة أو توفر المعلومات أو المنتجات أو الخدمات أو ما يتعلق بها الرسومات الواردة لأي غرض من الأغراض. أي اعتماد تضعه على هذه المعلومات يكون على مسؤوليتك الخاصة. لا يمكن أن نتحمل المسؤولية عن أي عواقب قد تنجم عن استخدام هذه المعلومات. يُنصح دائمًا بالحصول على إرشادات من محترف مؤهل.