الاقتصاد السوري بين الركود والفرص الضائعة

بعد أكثر من عقدٍ من الحرب والعقوبات، يقف الاقتصاد السوري عند مفترقٍ حاسم بين العجز عن التعافي والبحث عن نموذج جديد للنهوض من الداخل

لا يخفى على أحد أن الاقتصاد السوري يعيش اليوم واحدة من أكثر مراحله تعقيدًا في تاريخه الحديث، ومن خلال متابعتي لواقع الاقتصاد السوري منذ أكثر من عقد، يمكن القول إن الأزمة الاقتصادية لم تعد مجرد نتيجة للحرب أو العقوبات، بل تحوّلت إلى بنية قائمة بحد ذاتها، تتغذى على الفساد والانقسام وضعف الثقة بين المواطن والدولة

في سوريا، لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، فكل تحسّن أو تراجع اقتصادي يأتي انعكاسًا مباشرًا للقرارات السياسية والظروف الأمنية، وهذا ما يجعل الحديث عن “الإنعاش الاقتصادي” مجرد عنوان جميل بلا أدوات تنفيذية واضحة

 

 من الحرب إلى الإنهاك الاقتصادي

منذ عام 2011، تغيّر شكل الاقتصاد السوري بالكامل، القطاعات التي كانت تشكل العمود الفقري للإنتاج — كالصناعة والزراعة والسياحة — تراجعت إلى أدنى مستوياتها.

وفق تقارير الإسكوا، فقد الاقتصاد السوري أكثر من 60% من قيمته الإجمالية، وتراجع الناتج المحلي إلى أقل من ثلث ما كان عليه قبل الحرب

لكن الأرقام لا تروي القصة كاملة، فقد انكمشت الطبقة الوسطى إلى حدٍّ يكاد يُمحى وانتقلت فئات واسعة من الكفاءات والعمالة الماهرة إلى الخارج، أما الداخل فبات يعتمد على الاقتصاد غير الرسمي والتهريب والتحويلات الخارجية كأهم مصادر البقاء، الاقتصاد اليوم لا يعيش أزمة مؤقتة، بل حالة إنهاك ممتدة

ومع غياب الرؤية الاقتصادية الوطنية، يتحول كل يوم من التأخير إلى خسارة جديدة في الثقة والفرص

العملة والاحتياطي انهيار الثقة قبل القيمة

الليرة السورية لم تعد مجرد ورقة نقدية، بل أصبحت مرآة للأزمة الوطنية، منذ عام 2020، تدهورت قيمتها إلى مستويات غير مسبوقة وبات المواطن يعيش يومه على أكثر من سعر صرف واحد في ظاهرة لم يعرفها السوريون من قبل

المشكلة ليست فقط في التضخم، بل في غياب الثقة بالسياسات النقدية، التاجر الصغير يخشى قرارات مفاجئة، والمواطن لا يجد أي استقرار في الأسعار

فيما المصارف شبه معطّلة، والدولار أصبح المرجع الحقيقي لأي عملية اقتصادية، العملة لا تنهض بالقوة الأمنية ولا بالشعارات، بل باستعادة الإنتاج، والشفافية، ومحاسبة الفساد المالي الذي استنزف مؤسسات الدولة لسنوات طويلة

الزراعة آخر خطوط الصمود

رغم الدمار والتغيرات المناخية، ما زالت الزراعة تمثل الشريان الأخير للاقتصاد السوري، في مناطق مثل الغاب وحوران والجزيرة، يواصل الفلاحون العمل بأبسط الوسائل المتاحة مدفوعين بإصرار لا يمكن إنكاره

لكن الصعوبات هائلة: نقص الوقود، ارتفاع أسعار الأسمدة، تدهور شبكات الري، وغياب الدعم الحكومي الحقيقي، ومع ذلك تبقى الزراعة القطاع الأكثر واقعية لاستعادة التوازن الاقتصادي مستقبلاً، لو أُعيد تنظيمها وفق خطط إنتاج وطنية، واستُثمرت الموارد المائية والأراضي الزراعية بفعالية أكبر

 التحويلات الخارجية والاقتصاد الموازي

لا يمكن فهم الاقتصاد السوري اليوم من دون النظر إلى التحويلات المالية التي تأتي من المغتربين، فهي تُقدَّر بمليارات الدولارات سنويًا، وتشكل المصدر الأساسي لدخل ملايين الأسر، لكن هذه التحويلات رغم أهميتها لا تُسهم في التنمية، لأنها تدخل في الاستهلاك المباشر لا في الاستثمار

إلى جانب ذلك، أصبح الاقتصاد الموازي — من تجارة الظل والتهريب والاحتكار — أكثر فاعلية من الاقتصاد الرسمي
وهنا تكمن المفارقة الكبرى، الدولة تعتمد على ضرائب من اقتصاد ضعيف، بينما الثروة الحقيقية تتحرك في مسارات غير خاضعة للرقابة

 الفساد كمعيق بنيوي لا كظاهرة عابرة

الفساد في سوريا لم يعد حالة فردية، بل تحول إلى منظومة متكاملة، وما يزيد خطورته أنه أصبح “مبررًا” في وعي كثيرين بحجة البقاء أو تغطية النقص

لكن في الحقيقة، لا يمكن لأي خطة إنعاش أن تنجح في بيئة لا تخضع فيها المؤسسات للمساءلة

من خلال متابعتي للخطط الحكومية خلال الأعوام الأخيرة، يتضح أن أغلبها يركز على الحلول الشكلية لا البنيوية، مثل زيادة الرواتب أو دعم القروض الصغيرة، دون معالجة جذور المشكلة: ضعف الثقة، وغياب العدالة، وتراكم المصالح المتشابكة بين المال والسياسة

الفرص الضائعة

سوريا تمتلك موقعًا جغرافيًا يجعلها مؤهلة لتكون محورًا اقتصاديًا إقليميًا. لكن هذه الميزة تحولت إلى عبء بسبب الانقسام السياسي والعزلة الإقليمية. الممرات التجارية التي كانت تعبر من حلب ودمشق إلى العراق ولبنان والأردن أصبحت شبه مغلقة، ما أفقد البلاد قدرتها على أن تكون مركزًا للتجارة والخدمات كما كانت سابقًا

كما أن غياب الاستقرار القانوني والاستثماري جعل رأس المال السوري يهاجر بدل أن يبني. ففي بيئة لا يمكن التنبؤ فيها بالقرارات أو الضرائب أو سعر الصرف، يفضل المستثمر الانتظار في الخارج على المغامرة في الداخل

 ما الذي يمكن فعله؟

رغم كل الصعوبات، ما زالت هناك فرصة واقعية لاستعادة التوازن. لكنها تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية قبل أي حلول اقتصادية. الإصلاح يجب أن يبدأ من إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة وفتح المجال للمبادرات الفردية والقطاع الخاص، مع رقابة شفافة

كذلك، لا بد من إعادة هيكلة الدعم الحكومي بطريقة عقلانية، بحيث يصل إلى مستحقيه فعلاً وتوجيه الموارد إلى القطاعات المنتجة، لا إلى الامتيازات أو الإنفاق الإداري

كما أن فتح قنوات التعاون مع الدول المجاورة — وخاصة العراق والأردن ولبنان — قد يشكّل بداية استعادة العلاقات التجارية الطبيعية، ويساعد في إعادة دوران السوق الداخلية تدريجيًا

الاقتصاد السوري اليوم يقف عند مفترق طرق. فإما أن يبقى أسير المعالجات الجزئية والوعود المؤجلة، أو أن يتحول إلى رافعة لإعادة بناء الدولة والمجتمع معًا. الطريق صعب، لكنه ليس مستحيلاً. فالشعوب التي نجت من الحرب قادرة على أن تنهض من الركود، إذا وجدت من يسمع صوتها، ويمنحها فرصة العمل لا انتظار المعونات. إن التعافي الحقيقي لا يبدأ من المصارف ولا من المؤتمرات، بل من وعي الناس بأن الاقتصاد ليس أرقامًا فحسب، بل هو علاقة ثقة ومسؤولية بين الدولة ومواطنيها

no
no

لقد ساعد الذكاء الاصطناعي في كتابة هذا المقال

اختار المشارك أن يبقى مجهولًا.

المعلومات المقدمة حول هذا الموضوع ليست بديلاً عن المشورة المهنية ، ويجب عليك استشارة أحد المتخصصين المؤهلين للحصول على مشورة محددة تتناسب مع وضعك. بينما نسعى جاهدين لضمان دقة المعلومات المقدمة وحداثتها ، فإننا لا نقدم أي ضمانات أو إقرارات من أي نوع ، صريحة أو ضمنية ، حول اكتمال أو دقة أو موثوقية أو ملاءمة أو توفر المعلومات أو المنتجات أو الخدمات أو ما يتعلق بها الرسومات الواردة لأي غرض من الأغراض. أي اعتماد تضعه على هذه المعلومات يكون على مسؤوليتك الخاصة. لا يمكن أن نتحمل المسؤولية عن أي عواقب قد تنجم عن استخدام هذه المعلومات. يُنصح دائمًا بالحصول على إرشادات من محترف مؤهل.