الحوار عملية أكثر تعقيداً من مجرد الدعوة السريعة إليه لأنه متصل ببنية مركبة منذ التنشئة الأولى من أصول التربية الواعية ومناهج التعليم الرفيع والقيم الأخلاقية السامية والوجود التفاعلي الاجتماعي والمستوى الحضاري الراقي، وهو ليس عملية يمكن أن تديرها مؤسسة أو مجرد رفع مطالب اجتماعية مكتوبة موجه للحكومات ،أو هي فضيلة تكتفي الهيئات الاجتماعية والدينية بالدعوة إليها ولكنه أداة هامة لاستيعاب تطور المعرفة الحديثة ولتناقل مستجدات العلوم الجديدة في مختلف المجالات التي أصبحت تشكل العالم المعاصر.
أشكال الحوار في العلاقات الإنسانية
يعد الحوار في مجتمعاتنا العربية والإسلامية مبدأ راسخاً من مبادئ الشرع الحنيف وأصلا ثابتا من أصول الحضارة الإسلامية ، وتحمل آيات الذكر الحكيم دعوات صريحة إلى الحوار الهادف بين المسلمين من جانب، وبين أصحاب الأديان والحضارات من جانب آخر،والمقصود في حقيقة الحوار مع الطرف الآخر من الناحية النظرية التعرف على ما يهدف إليه من خلال توجهاته وطبيعة علاقته بالآخرين لمحاولة رسم دوائر التفاهم وتحديد نقاط التماس بين الاهتمامات المشتركة التي يمكن تقاسمها وصولا إلى الاتفاق على مبادئ عامة أهمها الاقتناع بعدم التجاوز على الخصوصية الدينية والأخلاقية والهوية الثقافية للأمم كشرط لتحقيق مبتغى التقارب بين الشعوب والتعاون المثمر بين الأمم.
مضمون الحوار في العلاقات الإنسانية
والحقيقة أن مضمون الحوار وفق هذا المفهوم كان قائما في حياة شعوب الحضارات منذ القدم خاصة في المناطق المتجاورة حيث وجدت هذه الشعوب نفسها مدفوعة للتفاعل العفوي الطبيعي فيما بينها من أجل تبادل التجارب والخبرات والعلوم والمعارف وأنماط الحياة من سلوك وقيم وتقاليد وهو ما يسمى بالتواصل الحضاري الذي أثّر في شكل النسيج الاجتماعي على مدى الأزمنة المتعاقبة، ومع ذلك بقيت العلاقات بين الأمم ـ وما تزال ـ مضطربة أحيانا ، وأحيانا أخرى تكون مستقرة ومتوافقة، ولقد أدى الإحساس بضرورة تقارب الشعوب على مدى عشرات السنين الماضية إلى إدراك حيوية التلاقي والتواصل وبأهمية الحوار من خلال اللقاءات والمؤتمرات والندوات على فرض تجديد الأمل في إقامة علاقات جيدة على أساس التفاهم والاحترام المتبادل من أجل تشكيل أرضية مشتركة للتعاون بين الحضارات والثقافات والأديان كمظهر حضاري في أرقى صورة.
غرض الحوار في العلاقات الإنسانية
والحوار الذي يحقق هذا الغرض هو القائم على الاعتدال والوسطية أي البعيد عن التعصب في الرأي والتطرف في الفكر ويكون حواراً بالكلمة الراقية والمنهج السوي الذي يفتح المجال واسعا أمام الولوج إلى الدوائر المتخصصة في المجالات الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والتفاعل مع أطرافها على كافة المستويات من خلال سلسلة الحوارات الجادة والهادفة للمساهمة في صياغة الحضارة الإنسانية على أساس قيم الخير والحق والفضيلة ونشر المعارف والثقافات المختلفة لتنمية العلاقات السلمية بين الشعوب بما يسهم في زيادة الأفكار من خلال التفاعل الحضاري الذي يمنح الفرصة أمام هذه الشعوب لتمكينها من المشاركة في صنع التقدم العلمي فذلك هو ما يؤدي إلى الانفتاح الواعي والبصير على آفاق العلم وحقائق الكون أسرار الكائنات وقوانين الطبيعة من أجل تقاسم دعم جهود مواجهة تحديات العصر ووضع الحلول المشتركة المناسبة لها .
إن ما نشهده من تطور في الحياة الإنسانية بمختلف المجالات وما تعكسه الحضارة المعاصرة من تقدم علمي وتكنولوجي هائل هو نتيجة حتمية لتراكم معرفي وعلمي واجتماعي متواصل تم تشكيله على مدى العصور منذ بدء الخليقة على الأرض ، والحضارة الإسلامية نجدها قامت على أساس التفاعل الحضاري لأنها اعتمدت على ثقافة الحوار والتواصل فأخذت من الحضارات السابقة عليها واقتبست من ثقافات الأمم والشعوب التي اختلطت بها ثم طوعتها وصهرتها في بوتقة المفاهيم الإسلامية، وعليها تبلورت معالم الحضارة الإنسانية التي كان لها أثر كبير في نقل روح المدنية بإنصاف إلى جميع الشعوب التي تفاعلت معها بدون أي تعصب ولم تحتكر معرفتها بها فاحتفظت بمركز الصدارة في الشرق والغرب.
التدافع الحضاري
التفاعل الحضاري هو حوار دائم للخير والحق، ينشد ترسيخ العدل والتسامح للإنسانية مهما كانت التوجهات الفكرية والعقائدية، وهو يستند في مفهوم الإسلام إلى مبدأ التدافع الحضاري مبدأ نجد أصله في القرآن الكريم ولا يعني الصراع الحضاري ، فالتفاعل في الإسلام عملية تدافع بالتي هي أحسن لا تنازع، وهي تحاور لا تناحر ، والمعنى أن كل أمة تنافس أخرى نحو الأفضل ، لأن التفاعل يفيد استمرار الحياة والتصارع يؤدي إلى فنائها، ومن جهة أخري التفاعل الحضاري والتواصل الثقافي الذي يوصل إلى الحوار العلمي والموضوعي الهادئ لا يمثل ترفاً فكرياً عديم الأثر في الواقع المعاش فلا تصل آثاره إلى دوائر رسم السياسات ومراكز صنع القرارات، ولا ينبغي أن ينطلق الحوار بين الأمم ذات الحضارات العريقة والشعوب ذات الثقافات النوعية المتقدمة على أساس الإحساس بالتفوق العنصري أو الاستعلاء الحضاري أو بروح الهيمنة الثقافية واحتكار المعرفة، لأن الحوار الذي يكون قائما على أساس الادعاء بالتفوق والاستعلاء لا يؤدي إلى تحقيق الأهداف التي من أجلها تنشأ علاقات التواصل الثقافي بين الأمم لأن من أهداف الحوار إذكاء روح التقارب الثقافي وتنمية سبل التعارف العلمي ، فالتفاعل الحضاري إذن لا يكون إيجابيا وناجحا إذا كان المراد منه أن تتخلى الأمم عن ثوابت هويتها وخصائص شخصيتها وقيم أصالتها الذاتية وتصوراتها الفكرية، لأنها ستكون في حالة تبعية فكرية وثقافية تجعل الأمة مجرد متلقية لفكر الآخرين وأسيرة تصورات مستوردة ،وحينها ستكون ضحية غزو أيديولوجي وعدوان فكري وهو أشد مرحلة من مراحل محو الثقافة والشخصية ، وستكون في الأخير مهددة بشكل جدي في وجودها وكيانها لأنها أصبحت مستهدفة بمحو حضارتها وبالذوبان في ثقافات أمم أخرى وبالاندماج في قيم حضارية لشعوب تختلف عنها بدعوى التواصل الثقافي،ومثل هذه الصورة القاتمة لها صورة وأصل في الواقع وقد تجسدت بدعوى التجاور الحضاري في مناطق عديدة من العالم على زعم أن لبعض دولها خصائص متقاربة ولكنها في الحقيقة وقعت في فخ التغريب من خلال تفاعل حضاري فقد منذ البداية معنى العطاء المتوازن وأصول المنفعة المتبادلة لأنها استسلمت لمؤامرة صراع الحضارات وتحول التواصل إلى حوار للتاريخ.
حالات الحوار في العلاقات الإنسانية
نحن هنا بصدد حالات مستعصية للحوار عندما يجري بين الممكن المادي والمستحيل المعنوي، أي بين مستويات متباينة من التطور الحضاري فيه يشعر الضعيف بالعبودية لمالك العلم ومحتكر المعرفة، وبين عدم استعداد الشعوب للتنازل عن أصولها وشخصيتها وتراثها ولذلك تتوجس من الدعوة إلى العولمة الاقتصادية والتجارية، وتنظر بعين الريبة إلى الدعوة إلى عالمية الفنون والآداب، لاختلال التوازن بين طرفي الحوار لصالح الأكثر تقدماً. أو عندما يلعب دور شخصية الفرد في عالم السياسة عاملاً محدداً بين الحذر الشخصي والحذر التاريخي في تناول الأحداث وهو ما يؤثر في مجرى الحوار الذي تراه سيتأثر وفق شخصية وعقلية الرجل السياسي الذي بإمكانه حسب خبرته وتجربته الطويلة من تحويل الحوار عن مقصده وجعله وسيلة عاطفية لتنفيس الاحتقان ، حوار التنفيس ،حيث يتناول الفعل ورد الفعل ، أي العلاقة السببية لحصر الاهتمام بالظاهر دون الباطن ، كحصر واختزال أزمة سياسية أمنية أو اقتصادية واجتماعية في علاقة مذهبية بعد تصنيف المجتمع إلى مجموعات مذهبية يتأثر تصرفها السياسي بموقفها العقائدي على خلفية مذهبية ذاتية لا علاقة لها بواقعها السياسي ـ الاقتصادي ولا ببيئتها الجغرافية.
دور الحوار في العلاقات الإنسانية
وقد يؤدي الحوار دورا مخالفا لعفة عرضه في اتجاه إجراء مصالحة شاملة بين طرفي أزمة يبدو ثمنها أكبر من قدرة الطرفين على تسديده، والمؤامرة على عفة الدعوة للحوار قد تجري بتحويله إلى موضوع ملتبس تسوده الضبابية أكثر من الوضوح في خطاب المتحاورين التي تعطل عملية تخصيب الشرط الموضوعي لانتعاشه، ومن ذلك عندما يتفرق أبناء الوطن الواحد كثيرا بشأن تصوراتهم الروحية ثم لا يجدون إلا الدين لكي يبرزوا من خلاله اختلافاتهم من الفرقة السياسية والإيديولوجية إلى الانقسام الديني، حينها ستكون كل دعوة إلى الحوار غير ذي موضوع ،وستصير هذه الأطراف المعارضة عائقا أمام تظهير المضمون الحقيقي الذي تحجبه حينها لن يكون هناك مانعا من تحييدها لأن الواقع يؤكد أن عرقلة جهود الحوار بين أطراف أزمة يؤدي إلى تأخر في التسوية السياسية لهذه الأزمة ويترتب عليه فراغ مؤسساتي يمثل في حد ذاته المجال الحيوي لبروز التشدد في المواقف والتطرف في الفكر والتصور الذي لا ينتج سوى إلى فزاعة يمكن ألا تكون حقيقية ، كما أن غياب الحوار أو تغييبه يفتح المجال غالبا لاختلاق العداوات الافتراضية ويدفع نحو الإفلاس المادي والأخلاقي .
أهمية وضرورة الحوار
فعل الحوار هو ضرورة وجودية متعددة الأصوات لتجنب الانعزالية الممرضة والتقيد بالأيديولوجيات المتكلسة، وهو ضرورة اجتماعية فكرية متعددة المذاهب لأنها مجال لممارسة السلوك الديمقراطي المفتوح للتعبير وتبادل الأفكار، وهو يمثل بذلك اعترافاً بالحق في التعددية الفكرية واحتراماً بوجود الآخر، وهو إقرار ضمني بالحق في الاختلاف المثمر الذي يسفر عن إضافات فكرية حقيقة سواء في أبعاده اللغوية، والثقافية، والدينية، ويقتضي الحوار الجاد أن يكون المتحاورون ملمين جيداً بفقه الحوار العلمي الرصين، وبأخلاقيات الحوار العقلي وبسبل إدارة الاختلاف الفكري بالأدوات المعرفية وذلك حتى لا ينقلب الحوار إلى مجرد جدل عقيم وثرثرة لفظية لا معنى لها ولا نفع منها ولا تأثير، وخطورة هذا الجدل أنه يضيع أهم شروط الحوار وهو الاتزان النفسي والهدوء العصبي الذي يتيح فرصة ترتيب الأفكار واتباع موضوعية الحوار ومنطقيته، فالمنطق في الحوار يجعله مقنعاً، والمعنى أن تحقيق التكافؤ العقلي يجب أن يكون في حدود موضوع الحوار وبين أطرافه المعنيين حتى لا يجرب طرفا ما أو يحاول أن يكون أطول من قامته، ولأنه دون هذا التكافؤ ستخوض أطراف في علم ليس علمها وستدخل معارك خاسرة، يكون فيها سوء الفهم أكبر من سوء التفاهم.