غريب أن يتسم القادة فى كتاب “عصر الأقوياء” بضعف الشخصية وضعف الأفكار السياسية. فمثلاً “فلاديمير بوتين” الذى مكث فى السلطة لمدة أطول من غيره، يظهر كرجلٍ ضئيل يشعر بالمرارة، متزعزع ومحاصر بقوة فى عصر التقلّب الثقافي، ورغبته فى مستقبل روسيا تنبع من حنينه المتخلف العاطفى للحقبة السوفيتية.
أما “دونالد ترامب” وبغريزته الاستبدادية وأعجابه ببوتين، وحساسيته المعروفة، يبدو غير قادرا على تحمّل أقل انتقاد وينتقم بتطرف من متحديه. و”شي جينبينج” الرئيس الصينى القوى ظاهرياً لكنه يخاف بالمثل من المعارضة كما يتضح من عمليات التطهير القاسية التى ينفذها الحزب الشيوعى الحاكم وقمع نشطاء الديموقراطية فى هونج كونج.
محتوى الكتاب
يدرس الكتاب هذه الشخصيات وشخصيات أخرى لهم عيوب كبيرة من خلال سلسلة من المقالات البليغة والواعية عن الصعود العالمي لزعماء استبدادين قومين وشعبويّن ممن كان لهم أثرا مدمرا على التقاليد الديموقراطية والليبرالية.
يركز كتاب”ريتشمان” على ظاهرة حديثة بدأت تقريبا مع صعود بوتن للسلطة بين عامى 1999-2000.
ينظر ريتشمان، لبوتين، على أنه النموذج الأصلى للجيل الحالى من القادة الأقوياء” فتكتيكاته التجارية حجّمت القوى المستقلة، وأكد السلطة المركزية للدولة وأستخدم الحرب لتدعيم موقفه الشخصى وقلده فى هذا القادة الرجعين المعادين للعولمة والليبرالية والقيادة الغربية القائمة على قواعد النظام الدولى”.
الأكاذيب والمعلومات المضللة والتخريب المؤسسي، والتعظيم الشخصى، والفساد المنهجى، والقومية العرقية، والحروب الثقافية، وتحريف التاريخ، وأستخدام العنف داخليا والعدوان خارجياً كلها الأدوات البوتينية القبيحة والتى لوحظت قبل غزو أوكرانيا، وكانت ملحوظة بشكل أسهل قبل 20 عاما فى أوروبا وأمريكا لكن من أهتموا بالبحث للأسف لم يفعلوا الكثير.
الغزو الروسي لأوكرانيا
من المحبط ألا يحتوى هذا الكتاب على تحليل للغزو الذى بدأ فى 24 فبراير، فقد كانت هناك رغبة كبيرة فى مناقشة النظام العالمى المستقبلى وأحدث النظريات المتعلقة بعقلية بوتين فى كونه منفصلا عن الواقع أو انه مريض أو واهم بدعايته الشخصية أو ببساطة أنه جُن. وإذا فشل فى أوكرانيا فسوف ينتهى فجأة عصر القوة بالنسبة له.
ورغم هذا فإن تأثير بوتين لا يزال يتردد صداه بين مجموعة الحكام المستبدين فى كتاب ريتشمان. ففى الصين يتخبط”شي جينبينج”فى جنون العظمة. وفى المجر يلجأ “فيكتور أوربان” والذى أعيد أنتخابه حديثا، لمعاداة السامية لصقل أفكار الهوية الوطنية.
وفى إسرائيل يتصرف نتنياهو كمنقذ للأخلاق ويحاصر أعداءه للأبد. وفى أمريكا يعزف “دونالد ترامب” نفس النغمة القديمة بمهاجمة الأقليات والمهاجرين والإعلام. ويلعب “رودريجو دوتيرتى” دور الرب، يُدين ويقتل لمجرد نزوة.
سلوك القادة الأقوياء
يقول ريتشمان فى كتابه، أن القادة الأقوياء يميلون إلى أن يكونوا عديموا النفع فى قيادتهم. فرئيس الوزراء الهندى”ناريندارا مودى”يصف نفسه بأنه رجل الشعب وأنه متصل بـ “الهند الحقيقية” لكن إصلاحاته فى عام 2020 أثارت أحتجاجات شعبية غير مسبوقة من الذين أدعى أنهم يفهمون بشكل فريد. وأنزعجت الحكومة ولامت قوى أجنبية غامضة، وجريتا تونبرج.
أما السلوك العدوانى للرئيس التركى”رجب طيب أردوغان” يعكس أحساسه العميق بانعدام الأمن والذى تفاقم بعد محاولة الانقلاب 2016، وأطلاق جنوده النار عليه. وبالتشبه بالسلطان العثمانى بنى”أردوغان” لنفسه قصرا فخما وآمن فوق قمة تل يطل على أنقرة، حيث يدرس مذهولا الفوضى الناجمة عن أميته الاقتصادية وأختلاله السياسى.
وكالعديد من القادة الأقوياء، كُرّم “محمد بن سلمان” ولى عهد السعودية فى البداية باعتباره مُصلحاً، وبعدها تسبب بكارثة اليمن الإنسانية. وقتل الناقد”جمال خاشقجى”2018، ودمر سمعته فى الغرب. وفاز رئيس الوزراء الإثيوبى”أبى أحمد” بجائزة نوبل للسلام بعدما تغلّبت غطرسته عليه وخاض معركة تيجراي والتى لم يستطع انهاءها.
والآن، كأس العالم فى إنعدام الكفاءة والدموية يذهب للرئيس البرازيلى الشعبوى اليمينى المتطرف”جايير بولسونارو” أو ترامب أمريكا الجنوبية والذى أغضب سوء تعامله الغير مسؤول حتى الموت مع الجائحة أشد مؤيديه المتحمسين.
يمكن القول بأن مفارقة الرجل القوى تأتى من الارتباك حول الفرق بين القوى الغاشمة والمرونة. فالاولى تتمحور حول الهيمنة الشخصية ومعاداة المجتمع والفرض بالقوة، وعادة يكون هذا دون أعتبار للقانون أو العدالة أو حقوق الأخرين. أما المرونة فتتعلق بالقوة الداخلية وسعة الحيلة والقدرة على التكيف والتى تنشأ من المبدأ والقناعة والإيمان بالارادة الجماعية بدلا من القوى الفردية.
ووفقا لهذا التعريف فإن”آليكسى نافلنى” يُعتبر قائدا قويا فى روسيا، معارضا شجاع حاول بوتين تسميمه ثم سجنه. وفى تركيا”صلاح الدين دميرطاش”السياسى الكردى المعتقل منذ 2016. وأما فى إيران فمن النساء القويات، محامية حقوق الإنسان “نسرين ستوده” التى أخجلت إبراهيم رئيسى.
الإستبداد في التاريخ الحديث
يقول ريتشمان فى كتابه”لقد ساعد الحكام المستبدين فى تقويض المُثل والممارسات الديموقراطية فى العالم أجمع منذ عام2000، وبشكل أكبر بعد الإنهيار المالى 2008″
“شهدت السنوات ال15 الماضية التراجع الأكبر للحريات والسياسة فى العالم منذ الثلاثينات، والصادم أكثر أن معقل الديموقراطية، أمريكا، هو الأقرب للإنهيار”
“فى حفل تنصيبه، أعلن جو بايدن، بعد أسبوعين فقط من اقتحام أنصار ترامب للكابيتول لمحاولة إلغاء الانتخابات، وقال، تعلمنا أن الديموقراطية ثمينة، هشة، وغالبة” لكن الحقيقة أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لريتشمان. فمعظم الجمهورين لا يزالون يصدقون كذبة ترامب الكبيرة وسيحاولون مرة أخرى بعد عامين.
من السهل أن تكون متشائماً، فالقادة الأقوياء موجودين كالآفة دائماً. فقبل بوتين كان ستالين، وقبل شي جين، كان ماو. وقبل أردوغان كان أتاتورك. وفى بولندا قبل “ياروسلاف كاتشينسكى” فى زمن حلف”وارسو” كان الجنرال”فاوتشيك ياروزليسكى”.
وكما يقول ريتشمان “التاريخ دوريا وليس خطيا، وكل جهود العصور التاريخية مصطنعة إلى حد ما”. وعلى ذلك فان الكثير من الشعوب المضطهدة والمحرومة من حقوقها خاصة الشعب الأوكرانى فى الوقت الحالى، فإن حقيقة عصر الرجل القوى اليوم يتجسد فى أكثر صوره رعباً.