مراجعة للكتاب التاريخي الصادر حديثاً “الخمسينات، التاريخ السري. تأليف جيمس. ار. جاينز، إصدار فبراير 2022”
“بعيداً عن أنها كانت سنوات التوافق والإكتئاب، إلا أن الخمسينات من القرن الماضى شهدت ظهور التطرف العرقي والجنسي والنشطاء الذين أفتتحوا أفاقاً جديدة”
صحافة الخمسينيات
لم تكن صحافة الخمسينات من العقد الماضى فى أفضل حال، فطالما كان هذا العقد فى الولايات المتحدة الأمريكية مرادفا للتراجع السياسى والتحفظ الاجتماعى الذى أعقب اضطرابات الحرب العالمية الثانية. وكان السيناتور مكارثى ولجنة النواب للأنشطة الغير أمريكية هم أكبر الأمثلة على هذا بالاضافة لوجود أمثلة أخرى بالتأكيد.
وفى هذه الدراسة نرى الفترة التى أجتمعت فيها النساء ممن أخذن أماكن الرجال فى العمل أثناء فترة الشغب، فى المساكن الجماعية، أرتدين حمالات صدر مدببة وتنورات طويلة وبدأن فى تربية الجيل التالى من الأمريكين الوطنيين. أما الجنود السود الذين قاتلوا فى أوروبا جنباً إلى جنب مع أبناء وطنهم من البيض، وجدوا أنفسهم عائدين إلى جنوب معزول حيث طُلب منهم الجلوس فى المقعد الخلفى من الحافلة.
الخمسينات أو بالأحرى فى السنوات من 1946 إلى 1963، تميّزت بما أسماه نورمان ميلر “سنوات التوافق والاكتئاب”. إلا أنه لم يحدث أو على الأقل ليس للجميع كما أوضح”جيمس جاينز” فى هذه الدراسة الكاشفة، ماحدث تحت سطح بليزنفيل فى أمريكا بعد الحرب حيث وُجدت جميع أنواع الاعتراض والغضب. ففى كل مكان نظر فيه”جاينز” وجدا أفرادا يصرّون على السير وقرع طبولهم حتى عندما أقحمهم هذا فى صراع مباشر وخطير وسط هذا الوضع القمعى الجديد.
أيضا تسلط هذه الدراسة الضوء على مجموعة كاملة من الحركات السرية التى تعاملت مع كل شيء بدايةً من العلاقات العرقية وحتى الحركات النسوية للطبقة العاملة عن طريق النشاط الجنسي غير الثنائي (المثلي).
هاري هاي
بدأ جاينز، هذه النقطة مع”هارى هاى” الناشط البريطانى، والذى كان مثلياً جنسياً فى وقتا لم يكن لا اليسار ولا اليمين السياسى متعاطفاً مع المثلين. وهنا يعطى”جاينز” مثالاً صادماً على عدم التعاطف هذا عندما ذكر تحرير الحلفاء لمعسكرات القتال من دون أن يطلقوا سراح السجناء المثلين النازيين، ممن أدينوا من المحاكم النازية بسبب المثلية الجنسية، وقضوا عقوباتهم كاملة من دون احتساب الوقت الذى قضوه سابقا. وذكر أيضا أن الناشط الشهير”هارى هاى” فى بداية حياته كان مرتبكا فى هذه المسألة حيث تزوج، وبناء على نصيحة طبيبه للتعافى من المثلية، من فتاة تشبه الفتيان، وأيضا تبنى أبنتين سعيا للتعافى أيضا. لكنه لاحقا بدأ فى معارضة هذا التيار وأسس جمعية”ماتاشين” فى عام 1950 للدفاع عن حقوق المثلين، وكان حينها فى 38 من عمره.
هنا تضح النقطة الأكبر بأنه لم تكن التقدمية فى الخمسينيات بالأمر البسيط الواضح وبالتالى قادت حملة”هاى” إلى الصدام المباشر مع الرفاق السابقين فى الحزب الشيوعى والذين أعلنوا صراحة أن المثلية ليست إنحرافا أو شذوذ فقط بل هى أسوء من ذلك، فهى رمزا لانحلال البرجوازية.
جمعية ماتشاين
حتى جمعية”ماتاشين”نفسها أنقسمت الآراء فيها إلى فئتين. المحافظين الذين رأوا إدارة الجمعية على طريقة”العازب المجهول” أو العمل المستتر، وبين أولئك الذين رأوا العكس، ونادوا بضرورة زيادة العمل السياسي المباشر.
يرى”جاينز” أن عمله لايتمثل فى سرد قصة”هارى هاى” وجعلها مناسبة بشكل أو بأخر، لكنه أراد توضيخ خصوصية القضية. ويرى أن رحلة”هاى” المتعثرة مثالا على البطولة الحقيقية، والتى أنتشرت قبل عقدين من أندلاع أعمال الشغب فى ستونوول، وحركة تحرير المثلين هذه هى التى سهلت، ربما ليس بالمعنى الأمثل للسهولة، لكنها سهلت الخروج والفخر بهذا الامر.
تجلت مهارة”جاينز” فى أستخدامه قصص الحياة الفردية بكل تناقضاتها وفوضاها، سعيا منه لطرد الروايات الراسخة عن الحياة فى أمريكا في فترة ما بعد الحرب. وقد برع على وجه الخصوص فى إقران إثنين من المفكرين الذين لم يلتقوا أبدا لكن كتابات كلا منهما تتحدث عن هشاشة العالم الطبيعى، والتى تردد صداها بشكل خارق.
هذين الكاتبين هما”راشيل كارسون” الصحفية العلمية الشهيرة، عالمة الأحياء البحرية. والتى نشرت كتابها الغنائي”البحر حولنا” عن الحياة البرية الساحلية لأمريكا، 1951. والذى نشر مسلسلا فى”النيويوركر” وظل على قائمة الأفضل مبيعا فى النيويورك تايمز لمدة 86 اسبوع.
والكاتب الثانى”نوربرت وينر” والذى كان فى نفس الأثناء معجزة رياضية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وقد ساهم عمله الرائد فى توجيه الاسلحة فى أنتصار الحلفاء فى الحرب العالمين الثانية.
إنطلاقا من أماكن مختلفة كليا أدرك كلا من”راشيل كارسون، و نوربرت وينر” أن البشرية تقترب بشكل مخيف من تدمير نفسها. حيث جادلت كارسون فى كتابها الآخير”الربيع الصامت، 1962″ أن إدمان أمريكا للمبيدات الكيميائية للآفات أدى إلى تسمسم النظام البيئى التى تعتمد عليه الحياة كلها. وفى الوقت ذاته نشر”وينر” خطابا فى مجلة الأطلس الشهرية 1947، بعنوان”تمرد العلماء” وحذر فيه من عسكرة الحكومة للبحث العلمى، وأعلن رفضه القاطع للمشاركة فى أى مشروعات ستساهم فى الأنتشار النووى.
وكلا من”كارسون، ووينر” تعرضا للتشهير بسبب تحولهما الفكرى المفاجئ على مايبدو، وأيضا توفى كلاهما قبل يكون لديهم أى فكرة عن التغيرات الجذرية التى ستتشكل منها الحركات البيئية الحديثة.
عمل” جيمس. آر. جاينز” مؤلف الكتاب بين أيدينا كمحرر سابق فى ثلاثة مجلات كبرى هى”لايف مجازين، وتايم مجازين، ومجلة بيبول أوناس”، وعناوين هذه المجلات مجتمعة توفر لنا Time, Life and People
الخيوط الرئيسية لتاريخه السردي المتداخل، ومن خلال إهتمامه بتجربة الممثلين التاريخين وهم يتنقلون عبر العالم، فقد بنى رأياً مليئ بتعقيد التجربة المعاشة. وعليه، فلن تكون قراءة أعماله بسيطه لكنها ستكون غنية من غير حدود.